قضايا المعنى بين القراءات القرآنية وعلم النحو
نشرت مجلة "فكر"مشكورة هذا المقال في العدد الثالث، سنة:2006
قضايا المعنى بين القراءات القرآنية وعلم النحو
قضايا المعنى بين القراءات القرآنية وعلم النحو
في تفسير أبي حيان الأندلسي
يجد الباحث في تفسير البحر المحيط([1]) أنّ أبا حيان الأندلسي قد وظّف، في كتابه علوم اللغة توظيفا محكما، سعى من خلاله إلى إبراز معاني القرآن في أحسن الصور وأتمّها، وتقديمها إلى المتلقي بأيسر السبل وأحكمها. وقد زاد في قيمة هذه الوظيفة قدرة أبي حيان الفكرية ومعرفته العلمية على استثمار اللغة وعلى تسخيرها في تفسير آي القرآن بشكل فعّال. والمراد من مصطلح اللغة، كما هو واضح في منهج أبي حيان، صورتها الإجرائية التي تمثلها علوم الآلة المعروفة وهي المعجم والقراءات والصرف والنحو والبلاغة، ومتن الشعر إذا اعتبرناه مصدرا من مصادر الاستدلال على إثبات الحضور اللغوي وقيمته.
ولإبراز توظيف اللغة في تفسير القرآن اخترت معالجة أبي حيان للآية الكريمة([2]):
)وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(
يبرز الزمخشري معنى الآية بقوله:« ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم»([3]) وقد فصّل أبو حيان مدلول الصورة، ناقلا عن عطاء، وصفَ عذاب هؤلاء الظالمين يوم القيامة، فقال:«)وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا( حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام تلتقطهم كما يلتقط الحمام الحَب لعلموا أن القوة والقدرة لله جميعا.»([4])
لا شك أن جل التفاسير تتفق على محتوى الآية الكريمة، وتختلف في صياغة معناها بالتركيز على صفات الظالمين، أو على صور العذاب، أو على إبراز قدرة الله تعالى، أو على ما يشبه ذلك، ومن ثمّ يبقى المحتوى الدلالي العام الذي حددناه باختيار لفظ الزمخشري ثابتا في معظم التفاسير، بدليل أن أبا حيان لم يختلف عن غيره في تفسير هذه الآية، ولكنه تبنى([5]) المعنى نفسه ناقلا نص الزمخشري إلى كتابه، ومتبعا في ذلك عرضَ أكبر قدر ممكن من أقوال المفسرين الذين سبقوه، أو عاصروه.
ومادمنا قد حصرنا أنفسنا في معالجة أبي حيان للآية المذكورة فإننا وجدناه قد انفرد بإجراء علمي هام يمكن وصفه بـمفهوم تجريب الأدوات اللغوية العلمية لتعميق المعنى وتقليبه؛ ويتضح مدلول هذا الوصف بما قام به أبو حيان، إذْ ركز على مختلف القراءات التي تقرأ بها الآية عينها. ومن ثمّ فقد عالج، بصورة علمية، كلّ التغيرات الدلالية التي تنتج عن اختلاف القراءات، فكان عمله، إذّاك، شبيها بعمل مخبري يجرّب فيه حدود ما تقدمه إليه علوم العربية، ويختبر إمكاناتها الإجرائية، مقلِّبا معاني الآية ومتغيراتها حسب كل قراءة على حدة. وهذه ممارسة علمية تثبت، بغير شك، أن أبا حيان يسعى إلى أن يجعل من تفسير القرآن الكريم علما يستثمر علوما أخرى ويطورها بالضرورة. ومن ثم فوقوفنا على تفسير أبي حيان للآية السابقة يهدف إلى إثبات ذلك.
تنبني الآية على علاقة تلازمية بين جملة لو وبين جملة جوابها، وقد وصف النحاة حرف لو بأنه حرف لما كان سيقع لوقوع غيره([6])، أي أنها تمنع وقوع إجرائية جملة الجواب لعدم وقوع الحدث في جملة لو. وهذا ما دفع بالكثير من النحاة إلى أن يتصوّروا أنّ العلاقة بين الجملتين قائمة على ما تقوم عليه العلاقة([7]) بين المسند والمسند إليه، مادام قيام تركيب دال بأحد العنصرين فقط أمرا مستحيلا. وعلى هذا الأساس تكون جملة لو في الآية هي ) يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا( وجوابها محذوف يُقدَّر قبل )أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا(، أما جملة )وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(فمعطوفة على ما قبلها.
يقتضي إذن، تركيب الآية بهذه الحال سؤالا عن الغرض من حذف مفعول فعل يرى في جملة لو، ومن حذف جملة جواب لو؟
معلوم أن الحذف عنصر وظيفي في التعبير اللغوي، وقد درسه عبد القاهر الجرجاني هادفا إلى أن يثبت أن الحذف هو استجابة لمجموعة من الأبعاد التداولية والأغراض البلاغية، نحو: تقوية الكلام، وتدعيمه بدلالات ضمنية تضفي عليه [أي الكلام] حسنا ورونقا وأثرا فاعلا في المتلقي([8]). وقد حاول عبد القاهر الجرجاني حصر مختلف الوظائف الدلالية التي تدرَك من حذف المفعول من خلال قراءته لعدد هام من الآيات القرآنية والشواهد الشعرية، ساعيا إلى إبراز صنفين من المعاني:
ـ يتعلق الأول بالمعاني التداولية المرتبطة بالمتلقي وبالسياق.
ـ ويرتبط الثاني بقيود تركيبية ـ تداولية توظف مفهوم الاهتمام والاعتناء وما يعرف حاليا بالتبئير focalisation.
ويثبت عبد القاهر الجرجاني الحدود الضيقة بين هذين الصنفين قائلا([9]):«…فاعلم أن أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدية، فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين، من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين. فإذا كان الأمر كذلك، كان المتعدي كغير المتعدي مثلا، في أنك لا ترى له مفعولا لا لفظا ولا تقديرا»
بناء على هذا التحديد نشير إلى أن الغرض الأول من حذف مفعول (يرى) هو العناية بالفاعل والاهتمام به حتى تُتَصوّر أحوالُه من حيث الدلالة، وحتى تُدرك ما يتعلق بها أثناء العذاب. أما الغرض الثاني من الحذف فهو إثبات زمرة من المعاني البلاغية التي تتجاوز حدود المعنى المعجمي في حال ما إذا تمّ ذكر المفعول. وهي معان شكلها تفاعل مجموعة من العوامل الموجودة بالقوة في ذهن المتلقي. وللاستدلال على ذلك نشير إلى أن غياب المفعول من الجملة يمكِّن المتلقي من أن يتخيل لائحة من الوحدات المعجمية التي يوافق، بالضرورة، مفردٌ منها محتوى المفعول. ولهذا فالمعاني المفترضة من حذف المفعول قد تكون من نحو:
1 ـ لو يرى الذين ظلموا حالهم.
2 ـ لو يرى الذين ظلموا هول يوم القيامة.
3 ـ لو يرى الذين ظلموا نعيم المؤمنين.
إذا كانت وظيفة حذف المفعول بوصفه فضلة مفردة هي حثّ المتلقي على أن يساهم في بناء المعنى، فما هي وظيفة حذف جملة جواب لو؟ مع العلم أن جملة الجواب لا يمكن الاستغناء عنها.
من خلال فحصنا للشواهد اللغوية التي اعتمدها عبد القاهر الجرجاني بغية استنباط مجموعة من الأحكام والقواعد نجده لم يعالج حذف الجمل مثلما عالج حذف المفردات، نحو: حذف المبتدإ، أو الخبر، أو الفعل، أو المفعول. ومهما يكن من أمر الدوافع التي دفعت عبد القاهر الجرجاني إلى الاقتصار على إظهار القيم البلاغية من حذف المفردات دون الجمل، فإننا نعد أن القيمة البلاغية من حذف الجمل تبقى هي نفسها قائمة من حذف المفردات. وبناء على اللائحة المفترضة لفهم مدلول المفعول المحذوف، فإننا نقول إن الوظيفة البلاغية من حذف جملة جواب لو هي عدم تخصيص الجواب بمعنى محدد، الأمر الذي يدفع المتلقي إلى أن يتخيل، بحسب قيود سياق الآية وشروطه، شكل الجزاء الذي سيتلقاه الذين ظلموا بكفرهم. ومن هنا ندرك مفهوم التقدير([10]) بوصفه إجراء علميا اشتغل به المفسرون وغيرُهم على أنه لائحةٌ مفترضة لمجموعة من الجمل التي توافق كل واحدة منها معنى من المعاني نحو: لأقروا، أو لاستعظموا، أو لعلموا…
لم نتطرق بعدُ للوقوف على التجريب العلمي الذي وصفنا به عمل أبي حيان، لأننا انطلقنا من وصف الآية من حيث مكوناتها التركيبية ومن حيث عناصرها اللغوية. وقد كان هذا الوصف ضرورة منهجية تيسّر فهم عمل أبي حيان في تقليبه لمختلف القراءات.
)وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(
اختار أبو حيان، في هذه القراءة، أن يقدر فعل القول بوصفه جملة جواب لو لأنه يناسب، من الناحية التركيبية، التلفظ بهمزتين مكسورتين في) إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(، وهذا ما جعل إن واسمَها وخبرها جملة محكية بالقول على أنها مفعول به. ويثبت ذلك قول أبي حيان([12]):« من قرأ بالياء من أسفل [أي يرى]، وكسر الهمزتين فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو» وبهذا التخريج يبدو أن القيود التركيبية التي تفرضها هذه القراءة تكبح حرية تقدير المحذوف، إذ يصعب تخيل لائحة من الجمل المتعددة التي توافق قيد التلفظ بهمزتين مكسورتين من جهة، ويلائم مدلولُها المعنى العام للآية من جهة أخرى. ولهذا كان المناسبُ تقديرَ فعل القول([13]).
ولم يكتف أبو حيان بهذا التخريج فقط بل ذكر تخريجا آخر ينسجم مع قيود هذه القراءة، وهو اعتبار جملةِ ) إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ( جملةً استئنافيةً منقطعةً عما قبلها صناعيا، فيكون من ثمّ، جملة جواب لو هو «لاستعظموا ذلك»([14]).
وهكذا إذا استحضرنا التأويلين معا في هذه القراءة:
1 ـ ولو رأى الذين ظلموا هول العذاب لقالوا:« إن القوة لله جميعا…»
2 ـ ولو رأى الذين ظلموا شدة العذاب لاستعظموا ذلك. إن القوة لله جميعا…
فإننا نجد، بغير شك، أن بين التقديرين تفاوتا في المعنى من حيث جوابُ لو. فإذا كان الجواب، في التقدير الأول، هو إقرار الظالمين واعترافهم، بعد أن عاينـوا العذاب، بأن كل أشكال القوى هي لله وحده سبحانه وتعالى، فإن التقدير الثاني لا يميل إلى ذلك، وإنما يتّجه إلى أن جواب لو هو استعظام الظالمين هولَ القيامة وشدةَ العذاب فقط، من غير أن يصدر عنهم، بالضرورة، الاعتراف بأن أصل كلّ أشكال القوة والقدرة هو الله وحده لا شريك له. ومن هنا فما دامت الجملة الاستئنافية ) إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ( منقطعة عن جملة لو فإن البحث عمن تلفظ بهذه الجملة الاستئنافية، وما يترتب عن ذلك يبقى بحثا قائما في هذه القراءة.
انطلق أبو حيان في توجيهه لهذه الآية من مبدإ ينص على أن فاعل فعل ترى هو الذين، ولكنه يفترض احتمالا آخر يذهب إلى أن فاعل يرى هو ضمير مستتر يعود على السامع/المتلقي. ومن ثم تقدر العبارة على النحو التالي: ولو يرى سامع القرآن الذين ظلموا …. قد يكون الافتراض بعيدا غير أن أبا حيان لا يتركه بغير تحليل، بل يقلبه ويعالجه إلى أن يجعل الآية منسجمة مع مختلف مكوناتها. ولذلك افترض أبو حيان جوابَ لو محذوفا قبل ) إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا( مقدرا إياه على وجهين([15]):
1 ـ (ولو يرى السامع الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقال:« إن القوة لله جميعا…») وهذا الوجه جعل إنّ وما بعدها معمولة لفعل قال.
2 ـ (ولو يرى سامع القرآن الذين ظلموا إذ يرون العذاب لاستعظم ذلك، إنّ القوة لله جميعا) وفي هذا التخريج تكون جملة إنّ القوة لله جميعا جملة استئنافية لا محل لها.
واضح إذن أن أصول هذين التخريجين موجودة في القراءة السابقة، غير أن الفرق يكمن في فاعل يرى وفي حذف مفعوله، إذ في القراءة السابقة هو الذين ظلموا؛ أما في هذين التخريجين فإن الفاعل ضمير مستتر يعود على السامع / المتلقي الأمر الذي يجعل من الذين ظلموا مفعولا به.
القراءة الثانية بالتاء في ترى وهي قراءة نافع وابن عامر([16]):
)وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (
تتجه هذه القراءة إلى أن تجعل الفاعل في ترى هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو السامع، فيكون آنذاك مفعول ترى هو الذين ظلموا؛ ويبقى الحذف منحصرا في جملة جواب لو. ومن ثمّ قدره أبو حيان([17]) قائلا: «لعلمت أيها السامع أن القوة لله جميعا، أو لعلمت يا محمد إنْ كان [الخطاب]([18]) في لو ترى له» وبهذا الفهم يصبح معنى الآية مبنيّا على المتلقي وموجها إليه؛ أي أنه هو المخصوص برؤية ما سيحدث للظالمين وبأنه هو المقصود بأن يصدر عنه إقرار بثبوت جميع أنواع القوة لله عز وجل، ولا يصدر مثل ذلك عن الظالمين بالضرورة([19]). وهكذا كان لوظيفة الاهتمام بوصفها وظيفة بلاغية أثر واضح في توجيه المعنى والميل به إلى أن يصبح المعنى القائم على ما يحدث للظالمين حاضرا بصفة عرضية.
لم يتعرض أبو حيان لمثل هذا التأويل الدلالي بهذه الطريقة المباشرة، ولكن تقليبه للآية حسب القراءات على ضوء قواعد النحو فتح لنا إمكانية توظيف ما للبلاغة من أدوات علمية.
ولم يغفل أبو حيان في هذه القراءة تخريجا آخر جعل فيه جواب لو في آخر الكلام، أي بعد) أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا… ( ومن ثم تكون جملة أنّ واسمِها وخبرِها معمولةً على أنها مفعول لأجله، والتقدير بحسب نص أبي حيان هو:«وأما من قرأ بالتاء فتكون (أنّ) مفعولا من أجله أي لأن القوة لله جميعا»([20]) وهكذا تصبح العبارة اللغوية على الشكل التالي:
(ولو ترى يا محمد /أيها السامع ما حلّ بالظالمين من عذاب لأن القوة لله جميعا، ولأن الله شديد العقاب لاستعظمت ذلك) ومن ثمّ لم تغفل هذه القراءة بهذا التخريج أو بمتغيّره مبدأ العناية بالمتلقي على أساس أنه المقصود من الخطاب.
وتعرف هذه القراءة أيضا متغيرا آخر هو التلفظ بهمزتين مكسورتين:
)وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(
يحافظ أبو حيان في هذه الصورة على ما تصوره من تقدير سابق في جملـة لو، أما جملة الجواب بوصفها جملة محذوفة فإنه قدّرها على وجهين يوافق كلّ واحد منها التلفظ بهمزتين مكسورتين:
ـ تكون الجملة المحذوفة في الأول هي لقُلتَ وهي توافق فِعل ترى في جملة لو لاتحاد الفاعل في الفعلين معا، وهو السامع أو الرسول صلى اله عليه وسلم .
ـ تكون جملة الجواب في التقدير الثاني هي لاستعظمت حالهم، ويكون آنذاك حرفُ إنَّ في) إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ( متضمنا معنى التعليل ودالا عليه، وفي ذلك يقول أبو حيان([21]) :«وإنَّ القوة، وإنْ كانت مكسورة فيها معنى التعليل، مثل لو قدمت على زيد لأحسن إليك، إنه مكرم للضيفان » وبهذا الفهم تقدر الآية على الشكل الآتي: ( يا محمد / أيها السامع لو ترى الذين ظلموا وهم يتعذبون يوم القيامة لاستعظمت أمرهم، لأن القوة لله جميعا…)
يثبت التقدير إذن ـ باعتباره إجراء علميا اشتغل به الكثير من العلماء العرب في علوم مختلفة ـ أن الجملة المقدرة هي جملة مفترضة يقصد منها إبراز المحذوف وربطه بعناصره في التركيب. ومن ثمّ إذا انطلقنا من هذا المبدإ يتضح أن الجملة المقدرة في هذا المثال قد تعرضت إلى زمرة من التحويلات منها:
ـ حذف اللام في (لأن القوة لله جميعا…)
ـ تحول (أنّ) بهمزة مفتوحة إلى (إنّ) بهمزة مكسورة.
ما نود أن نثبته بهذا التحليل هو أن أبا حيان عالج تركيب هذه القراءة انطلاقا من مقومات دلالية فرضها تركيبُ الجملة المقدرة، واقتضاها فهمُ التركيب نفسه فهما دلاليا معتمدا في ذلك على زمرة من الأمثلة التي تشهد اللغة العربية على اطرادها في النسق العربي القديم، ويؤكد ذلك بقوله([22]): «ومَن كسر (إنّ) مع قراءة التاء في ترى، وقدر الجواب آخر الكلام فهي، وإنْ كانت مكسورة، على معنى المفتوحة دالةٌ على معنى التعليل تقول:«لا تهن زيدا إنه عالم ولا تكرم عمرا إنه جاهل، فهي على معنى المفتوحة من التعليل»»
قد لا نقول إن معاني هذه الآية في هذه القراءة مختلفة عن القراءة المشهورة، ولكننا نقول قد يكون المعنى الواحد هو الأصل بحسب اختيار القراءة، وتكون المعاني الأخرى متغيرات له، وضروبا منه، وفروعا عنه على أساس أن زوايا النظر هي التي تغلّب هذا الوجه دون الوجوه الأخرى.
عبد الحي العباس
كلية اللغة العربية
مراكش
([8]) يقول عبد القاهر الجرجاني في الحذف:«هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر، افصح من الذكر، والصمت عن الإفادة ، أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن» دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، ط:2، القاهرة، 1989، ص:146.
([19]) ومما يرجح قيام معنى الآية وتأسيسه بنوع من التركيز والاهتمام الاحتمال الذي افترضه أبو حيان في قراءة من يقرأ يرى بفاعل الغائب، مع التلفظ بهمزتين مفتوحتين. حينئذ، يكون التقدير هو سبكُ المصدر المؤول من أنَّ وخبرها في جملة )أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا( بوصفه مفعولَ فعل يرى. ويشرح أبو حيان ذلك بقوله:«وإذا كان الجواب (جواب لو) مقدرا آخر الكلام، وكانت أنّ مفتوحة فتوجيه فتحها (…) أن تكون معمولة ليرى» وبهذا الفهم تكون العبارة على الشكل التالي: (ولو يرى سامعُ القرآن الذين ظلموا انفرادَ الله بكل أنواع القوى لاستعظم ذلك). تفسير البحر المحيط، 1/645.
تعليقات
إرسال تعليق