فقه اللغة المعاصر





مشروع ابن جني لصياغة معجم ثنائي

إذا كانت قضية اللفظ والمعنى قد شغلت حيزا هاما في الفكر العربي القديم، فإن ابن جني قد عالج هذا المبحث من منظور لغوي في أبواب مختلفة من كتابه الخصائص[1]؛ غير أن ما عرضه من أوجه هذا الموضوع في ثنايا بابي «تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني»  و«إمساس الألفاظ أشباه المعاني»[2]، ينطوي، فيما يظهر، على تصور علمي ملائم، نراه نواة مشروع لصياغة معجم عربي ثنائي، نظرا لما قام عليه من مبادئ قوية وأسس علمية متينة، ولغة واصفة بسيطة.

آلية الثنائية والتقارب الدلالي
افترض ابن جني في باب التصاقب أن تقارب عدد كبير من الوحدات المعجمية العربية في مستوى ألفاظها يعود إلى دنو معانيها دنوا شديدا؛ وانطلق في باب الإمساس من فرضية مفادها أن عددا كبيرا من الوحدات المعجمية يكاد لفظها، بسبب جرسس أصواتها، يمس معناها. وللبرهنة على ملاءمة هذه التصور النظري، وظف ابن جني آلية الثنائية[3] المبنية على أسس صوتية استمدها من نتائج المعالجة الصوتية بحسب ما توصل إليه الدرس اللغوي العربي القديم. ولعل وصف بعض ما جاء في متنه التمثيلي كاف للتفكير في إنتاج معجم ثنائي معاصر، لما له من قيم مضافة يستفيد منها التلميذ والطالب والباحث عموما.

باب التصاقب وآلية الثنائية في بناء المتن التمثيلي
عرض ابن جني في باب التصاقب عددا هاما من الوحدات المعجمية التي جمعتها معان مشتركة. ومن ثم عمل ابن جني على تنظيم وحدات متنه وفق معايير صوتية أدتت به إلى أن يقسم متنه التمثيلي إلى ثلاثة أقسام: في الأول اختلاف الأصل الثلاثي من صوت واحد بين عنصري الثنائية، وفي الثاني اختلاف الثنائية من صوتين، وفي الثالث اختلاف الأصوات الثلاثة كلها. ولتوضيح ذلك نعرض بعض الأمثلة من هذه الأقسام:

التقارب من صوت واحد
 (أزّ ـ هـزّ) و(عسف ـ أسف) و(جرف ـ جلف ـ جنف)[4]
ما يلاحظ في ثنائية (أزّ ـ هزّ) اشتراك عنصريها في معنى "الإزعاج"، غير أن الاختلاف بينهما من الناحية الدلالية يعود إلى أن (أزّ) يجوّزها الاستعمال العربي حينما يكون مفعولها كائنا إنسانيا، بدليل الآية الكريمة  التي تقول:) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا([5]  أما فعل (هزّ) فيتركب مع مفعول به ذي خاصية غير إنسانية، كما تعبر عنه الآية الكريمة الأخرى: )وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ([6]. ومن ثم فالفرق بين عنصري الثنائية يعود إلى صوتين(أ ـ هـ) بينهما خصائص مشتركة[7] وأخرى مختلف فيها؛ الأمر الذي منح مدلول القوة لـ (أزّ)، ما دام النطق بالهمزة اقتضى جهدا انفجاريا، بينما الحال ليس كذلك في التلفظ بـ (هزّ).. وقد وصف ابن جني محتوى الثنائية بقوله:  «وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز، لأنك قد تهز ما لا بال له، كالجذع وساق الشجرة، ونحو ذلك.»[8]
ولا تبتعد ثنائية (أسف ـ عسف) عن هذا النمط من التحليل، إذ أن الاستعمال الذي تقبله العربية يجعل دلالة فعل (أسف) خاصة بالنفس الإنسانية. ومن ثم، إذا تلفظ عربي بالجملة الآتية: «إني آسف» فهذا يعني أنه قد سار على غير هدى باتخاذه سلوكا ما، ومن ثم يكون قد ظلم نفسه بتصرفه هذا. فهذه الوحدة اللغوية يناسبها صوت الهمزة لقوتها الانفجارية ولوقْعها الواضح على الإنسان، بينما (عسف) تناسب دلالة السير الطبيعي على غير هدى؛ ومن ثم كان استعمال صوت العين ملائما لهذا المعنى لأنه أخف حدة من استعمال الهمزة. ولعل في نص ابن جني ما يقوي هذا التوسع من التحليل: «ومنه العسف والأسف؛ والعين أخت الهمزة كما أن الأسف يعسف النفس وينال منها، والهمزة أقوى من العين؛ كما أن أسف النفس أغلظ من التردد بالعسف» [9]
نستنتج مما عرضه ابن جني ما يلي:
1  . في ثنائية (أز ـ هز) و(أسف ـ وعسفاتحاد الأصول الصرفية في عين الكلمة ولامها. في مقابل ذلكك اختلف صوت الهمزة عن الهاء في (أز ـ هز)، وصوت الهمزة والعين في (أسف ـ وعسف). والأمر ذاته في ثنائية (جرف ـ جلف ـ جنف)، إذ الأصلان المشتركان هما فاء الكلمة (ج) ولامها (ف).
2    . إذا نظرنا إلى الأصوات المختلفة في هذه النماذج على مستوى المحور الاستبدالي وجدنا أن مفهوم التصاقب يتأسس على مفهوم الخصائص المميزة في الدرس الصوتي، إذ يكفي لخاصية صوتية واحدة أن تمنح الكلمة استقلالها الذاتي لفظا ومعنى.

التقارب من صوتين اثنين
لم تكن الأمثلة الاستدلالية التي وظفها ابن جني في هذا المستوى كثيرة، ولم يبيّن دلالتها المعجمية المشتركة والمختلف فيها بين وحدتي الثنائية ولكنه اكتفى بالوصف الصوتي على أساس أن في كل ثنائية صوتين مختلفين بينهما علاقة قرابة لصدورهما من مخرج واحد، ولتشابههما في صفة واحدة أو أكثر. في المقابل يكون الصوت الواحد هو نفسه في عنصري الثنائية. وإذا استحضرنا نص ابن جني الذي يقول فيه :« وقد تقع المضارعة في الأصل الواحد بالحرفين؛ نحو قولهم: السحيل والصهيل (...) وذاك من (س ح ل) وهذا من (ص هـ ل) والصاد أخت السين كما أن الهاء أخت الحاء، ونحو منه قولهم :سحل في الصوت و(زحر) والسين أخت الزاي كما أن اللام أخت الراء[13]ـ فإننا نجده قد اكتفى بما عرضه من أمثلة؛ وهي: (سحل ـ صهل)  و(سحل ـ زحر) و(جلف ـ جرم).
تظهر الثنائية الأولى اشتراكها فيما تصدره الأنعام من أصوات، غير أن اللغة العربية خصصت الحمار والبغل بـ" سحل" سواء كان نهيقا أو ما يشبه بحبوحة تتردد في صدرهما [14]؛ وأما "الصهيل" من (صهل) فهو الصوت الحاد المصحوب ببحة، وهو خاص بالخيل[15].
وغير بعيد عن مدلول الصوت الصادر من الرئتين والمصحوب ببحة، ذكر ابن جني صيغة (زحر)، إلا أنه مخصوص بالإنسان، إذ يوضح لسان العرب معناه بكونه «إخراج الصوت أو النفَس بأنين عند عمل أو شدة (...) ويقال للمرأة إذا ولدت ولدا: زحرت به» [16].  وهكذا يتضح أن الاستعمال اللغوي العربي خصص لكل معنى من ثنائية (سحل ـ صهل ـ زحر) فاعلا محددا متميزا من غيره.
وفي ما يخص ثنائية (جلف ـ جرم) فالظاهر أن مسوغ التقارب الدلالي بينهما يسهل تصوره إذا فهمنا، بحسب الإشارة السابقة، أن جلف إزالة جلفة الشيء وغلافه، بينما جرم تفيد قطع الشيء.
وهكذا يلاحظ أن ابن جني قد اتبع المنهج نفسه في وصف ثنائيات وقع استبدال أصواتها في موضعين اثنين؛ ففي (سحل ـ صهل) نجد السين والصاد، وهما من صنف واحد، قد وقعتا موقع فاء الكلمة بحسب المحور الاستبدالي. بينما وقعت الهاء والحاء في عين الكلمة. أما لام الكلمة فقد بقي هو نفسه باعتباره ما يوحّد بين الثنائيات. وهكذا، تمنح السمة المميزة بينهما الاستقلال الذاتي لكل وحدة معجمية الأمر الذي ينعكس على الاختلاف الدقيق في المعنى الخاص.

التقارب من الأصوات الثلاثة:
برهن ابن جني على تماسك تصوره حينما أقحم في متنه التمثيلي نماذج من الثنائية المعجمية يوضح فيها أن التقارب الصوتي بين الوحدات المعجمية شمل الأصول الثلاثية بكاملها، عكس ما تظهره النماذج السابقة. وإذا استحضرنا بعضا من نصوصه  في باب التصاقب وجدنا تحليله قد انصب كليا على إثبات انتظام العلاقة الصوتية بين الثنائيات وفق محور استبدالي، الأمر الذي يستفاد منه انعدام الاعتباطية في تركيب مكونات الثنائية، مع التسليم بأن التقارب بهذه الصورة وبما سبقها كان نتيجة اقتراب المعاني إلى حد معين. يقول ابن جني: «نعم، وتجاوزوا ذلك إلى أن ضارعوا بالأصول الثلاثة: الفاء والعين واللام.  فقالوا: عصر الشيء، وقالوا: أزله، إذا حبسه والعصر ضرب من الحبس. وذاك من عصر وهذا من أزل والعين أخت الهمزة، والصاد أخت الزاي، والراء أخت اللام»[17] .
استدل ابن جني على ملاءمة تصوره بمفهوم الأخوة التي توحد بين الثنائيات من الناحية الصوتية، وهو مفهوم يدرك محتواه بدقة على ضوء الخصائص المميزة. ويكفي لتوضيح ذلك أن نقارن بين ثنائية (ع ص ر ـ أ ز ل)؛ فبين الصاد والزاي اشتراك في خاصية الصفيرية، غير أن الهمس يميز الصاد من الزاي باعتباره صوتا مجهورا.
ويُظهر مثال (جرف ـ جلف ـ جنف) أن ابن جني كان يخضع إلى سعة المعجم العربي محترما مبدأ التصاقب بين ثلاثة وحدات معجمية[10].  وهو، بهذا الخضوع قد احترم أيضا المعايير العلمية والضوابط المنهجية التي بنى عليها موضوعه. ومن ثم فالظاهر أن المشترك بين هذه الوحدات المعجمية هو ضرب من "الإزالة"؛ إذ (الجرف) هو الأخذ الكبير كما جاء في لسان العرب[11] في حين أن (الجلف) هو أخذ قشرة الجلد أو غيره، أما (الجنف) فهو الميل. وفي نص  ابن جني ما يكشف عن المشترك بين هذه الوحدات المعجمية بنوع من التوسع فقال: «الجرفة، وهي من (ج ر ف) وهي أخت جلفت القلم، إذا أخذت جلفته، وهذا من (ج ل ف)، وقريب منه الجنف وهو الميل، وإذا جلفت الشيء أو جرفته فقد أملته عما كان عليه، وهذا من (ج ن ف)[12].
حضور الثنائية في الإمساس
انطلق ابن جني في باب إمساس الألفاظ أشباه المعاني من فرضية ترى أن عددا من الوحدات المعجمية قد اختار لها المتكلم العربي ألفاظا معينة تحاكي، بشكل غير محدد، أصواتا شبيهة بما يحدث في الواقع الطبيعي. وإذا كان ابن جني حاول إقناع القارئ العربي بأمثلة نحو "جر" و"شدّ" فإننا نكتفي بما عرضه من بيان مدلول فعل "شدّ" بالممارسة العملية لحدث الشد. وهكذا تتطلب عملية شد الحبل باعتبارها عملية تنتهي في مرحلتين ضروريتين بإحكام العقد بين طرفي الحبل: في الأولى يُسمع فيها أصوات طبيعية يغلب عليها صوت شبيه بالشين لاحتكاك طرفي الحبل ولاسيما إذا كان طويلا. وفي الثانية يسمع ما يشبه صوت الدال لإحكام العقد وتثبيته، ونظرا إلى أن الإحكام يحتاج إلى مجهود كبير وضغط قوي فقد أدغمت لام الفعل في عينه، وهما من جنس واحد. وهكذا يكون الإدغام علامة واضحة على ضرب من تقليدد أصوات شد الأمتعة على الراحلة[18] .
قد يكون مدلول ما عرضه ابن جني نسبيا لاختلاف اللغات والثقافات، ولكن كيفية البرهنة على ملاءمة ما ذهب إليه في نسق اللغة العربية ارتكزت على آلية الثنائية في نماذج كثيرة نحو (خضم قضم) و(سعد وصعد)، (قدّ وقت وقط) و(وصل ووسل) وغيرها من النماذج. ولعل تحليل مثال (خضم ـ قضم) كاف لتوضيح ما يسعى إليه ابن جني.
ينبه ابن جني إلى أن فعل خضم يقتضي بالضرورة مأكولا رطبا، نحو البطيخ والقثاء وغيرهما. وأثناء عملية التلويك بهذا الصنف من المفعول يسمع صوت طبيعي يشبه من بعيد أو من قريب صوت الخاء، ومن ثم ناسب الوحدة المعجمية أن يكون صوتها الإنساني خاء. في مقابل ذلك حينما تلوّك الدابة مأكولا صلبا نحو الشعير أو الذرة فإنها تصدر صوتا طبيعيا فيه من الخصائص ما يجعله قريبا من صوت القاف في اللغة العربية. وهكذا عملت الخصائص المميزة لصوتي الخاء والقاف، وهما أختان، على ضبط الخصائص الدلالية لمفعولي (قضم وخضم). وعلى هذا النحو من الدقة في الوصف والبساطة في التحليل عمل ابن جني على تبسيط الثنائيات الأخرى في اتجاه إثبات  المذهب القائل إن اللغة العربية، مثل غيرها من اللغات، نشأت تقليدا لأصوات العالم الخارجي.
لم يتمسك ابن جني بهذه الثنائية إلا لأنه يدرك أن المقارنة بين وحدتي الثنائية المعجمية تؤسس لفروق دقيقة بينهما، إلى درجة يستنتج منها أن العربي يكون لاحنا إذا تلفظ بجملة قضم زيد قثاء. ثم إن الثنائية بهذا التحليل تساهم في تنظيم المعرفة اللغوية وتعميقها، وتمنح إمكانية الاختيار المناسب لما يقتضيه التعبير الدقيق.

الثنائية المعجمية في القرآن الكريم
ركز أبو هلال العسكري( ت: 382 هـ) في كتابه الفروق في اللغة على بيان الفروق اللغوية[19] بين عدد معين من الوحدات المعجمية. غير أن عمله ظهر في شكل معجم الموضوعات[20] بدليل الأبواب التي يحتوي عليها كتابه. ثم إنه لم يكتف بتحديد الفروق بين المفردات المتقاربة، بل بنى بعض الأبواب على التقابل الدلالي بين مكوني الباب[21]، الأمر الذي يبعده بكثير عما فهمناه ابن جني.
أما محمد ياس خضر الدوري[22]، وهو من الباحثين المعاصرين، فقد اهتم بالموضوع نفسه، واشتغل على القرآن الكريم موظفا آلية الثنائية المعجمية بشكل موسع[23] مما عرضه ابن جني. فقد خصص فصلا بحث فيه عن الثنائية اللغوية في القرآن الكريم ووظيفتها في ضبط معنى الآية القرآنية الكريمة، انطلاقا من رسم واضح للفروق الدقيقة بين المدلول المعجمي لكل وحدة من الثنائية.  وعلى هذا الأساس عالج في المبحث الأول أثر الثنائية المعجمية من منظور التجانس الصوتي، باعتباره الأساس الذي عرضه ابن جني في بابيه، نحو: (الغمز ـ والهمز ـ واللمز) و(السفح ـ السفك) و(الخشوع ـ الخضوع) (الخلق ـ الخرق) و(الفرق ـ الفلق) والرجس ـ الرجز) و(اللقف ـ اللقم). وفي هذا المبحث تقيّد بما جاء به ابن جني وطبقه كما هو واضح. ومن جهة أخرى عالج نماذج من المعجم القرآني بالآلية نفسها من زاوية التباعد الصوتي، نحو: (التحسس ـ التجسس) و(الحطب ـ الحصب) و(القصم ـ الفصم) و(الوهن ـ الوهى). وأخيرا انتهى به البحث إلى توسيع آفاق الثنائية المعجمية حينما أدخل معيار الفروق بين الحركات، نحو: (السُّوء ـ السَّوْء) و(الضَّرـ الضُّر) و(الرُّشْد ـ الرَّشَد) و(الوِقر ـ الوَقر).
واضح إذن من هذا الضرب من المعالجة، أن آلية الثنائية تستدعي من المتلقي القيام بضرب من المقارنة التلقائية بين الوحدتين المعجميتين في القرآن الكريم الأمر الذي ينتج عنه إقرار بالإعجاز اللغوي في القرآن الكريم.

آفاق الثنائية في المعجم المعاصر
إذا تأملنا ما استدل به ابن جني من نماذج تمثيلية على ما ذهب إليه وجدنا هيمنة مظاهر الحياة البدوية عليه. ومن ثم، فالكثير من وحداته المعجمية قد لا يفيد، بفعالية، اللغة المكتوبة في عصرنا الحالي، نظرا لهيمنة مظاهر الحضارة والتمدن عليه؛ الأمر الذي يستفاد منه فقدان قيمة ما عرضه ابن جني من نماذج معجمية. قد تكون قلة تداول ما جاء في المتن التمثيلي مسوغا مقبولا، غير أن آلية الثنائية الموسعة تفيد في تنظيم المعجم تنظيما يمكّن مستعمل اللغة العربية من الاختيار المناسب للكلمة المناسبة في السياق المناسب. ولتوضيح ذلك آخذُ بعض الأمثلة من الاستعمال اللغوي المطرد في عصرنا هذا. ثنائية (فصل ـ فصم) وثنائية (جلس ـ قعد) وثنائية (تشبث بـ [شبث] ـ تمسك بـ[مسك]) وثلاثية (ضم ـ لمّ ـ جمع).
يبدو أن الاستعمال المطرد في ثنائية (فصل ـ فصم) هو "فصل"، بينما "فصم" فتداولها في مختلف الكتابات الحديثة قليل، وسبب ذلك فيما يظهر الاعتقاد الشائع أن وحدتي الثنائية متطابقتان. وليس الأمر كذلك إذا رجعنا إلى المعاجم العربية. ومن ثم فإذا كان معنى القطع والتمييز هو الجامع بين وحدتي الثنائية، فإن الفصم هو «الكسر من غير بينونة»[24] وانصداع «الشيء من غير أن يبين»[25]، ومعنى ذلك أن الحدود الفاصلة بين الجزأين مختفية تماما؛ في حين أن مدلول "الفصل" قائم على معنى التفريق مع إظهار الحواجز.
 لم يفرق لسان العرب بين (جلس وقعد)، إذ الجلوس عنده هو القعود، والقعود هو الجلوس. ولعل مسوغ هذا التطابق الدلالي اشتراك وحدتي الثنائية في وضعية معينة يكون عليها جسم الإنسان. غير أن ابنن فارس في مقاييس اللغة أشار إلى اختلاف دلالي جزئي حدد به القعود قائلا: « وهو يُضاهِي الجلُوسَ وإن كان يُتكلَّمُ في مواضعَ لا يتكلَّم فيها بالجُلوس».[26] ومن ثم فالقعود يتصور بعد حال القيام؛  بينما الجلوس يكون بعد حال الاضطجاع أو النوم.
وحاولت بعض المعاجم العربية أن تحدد الفرق الدلالي الذي على أساسه يتميز التشبث من التمسك، ومن ثم فإذا كان التعلق هو المعنى الذي يقرّب وحدتي الثنائية بوضوح فإن تاج العروس[27] خص التعلق بالضعف في "تشبث" بينما قيد التعلق بمدلول القوة في "تمسك".
أما ثلاثية (ضمّ ـ لمّ ـ جمع) فإنها تشير إلى مدلول الجمع بصفة عامة، غير أن اللم فهو جمع الشيء مع إصلاحه، وهذا التحديد يستلزم فقدان قيمة ما ينبغي لمّه، أما الضم فهو تقريب الشيء من الشيء بغير قيد، في حين يكون مدلول "الجمع"  بعد التفرقة[28]
وعلى هذا المنوال من التحليل ندعو المختصين في إنتاج المعاجم وصناعتها إلى التفكير في مشروع صياغة معجم ثنائي يعالج الفروق الدقيقة بين جملة من الوحدات المعجمية التي يطّرد استعمالها في العصر الحالي نحو: (أعطى ـ منح ـ وهب) (نال ـ أخذ) (رأى ـ نظر ـ بصرـ شاهد) (اختفى ـ استتر) (سار ـ مشى) (فرق ـ وزع) (بعثرـ شتت) (فحص ـ فتش) (نام ـ نعس) (غضب ـ حنق) (خطف ـ سرق) (سيطر ـ هيمن) (استعمر ـ استوطن) (صاح ـ صرخ) (بعث ـ أرسل)...
لاشك أن صياغة معجم عربي قائم على مبدأ التوافق الدلالي وتخالفه في الثنائيات المعجمية تضيف قيمة جديدة إلى ما أنجزه البحث العلمي. وقد تتضاعف هذه القيمة اللغوية إذا ما بُنيت على لغة واصفة دقيقة وفق معايير مستنبطة من درجة الاستعمال اللغوي الحديث في الأبحاث الجامعية والكتابات الإبداعات الفنية، والتعابير اللغوية في مجال التربية والتواصل.

                                                               د. عبد الحي العباس
                                                                 كلية اللغة العربية
                                                                جامعة القاضي عياض
                                                                       مراكش
  albahthe@gmail.com                               
الهوامش:


[1]  ابن جني، الخصائص، تحقيق:  محمد علي النجار, دار الهدى للطباعة والنشر,الطبعة الثانية بيروت، د.ت.
[2]  الخصائص، صص:145 ـ 168.
[3]  تراوح المتن التمثيلي بين ثنائية معجمية، وهي الكثيرة، وثلاثية معجمية، غير أن تفكيك الثلاثية بتقنية رياضية ينتهي إلى ثنائيات.
[4]  (قرم ـ قلم) (علم ـ عرم) (قرت ـ قرد) (علز ـ علص) (غرف ـ غرب) (جبل ـ جبن ـ جبر)
[5]  مريم: 83
[6]  مريم: 25
[7]  عبر الدرس الصوتي العربي القديم عن الخصائص الصوتية بمفهوم "الأخوة"
[8]  الخصائص ، ص: 146.
[9]  نفسه، ص:146
[10]  قد نرجع الثلاثية إلى ثلاث ثنائيات، نحو: (جرف ـ جنف) و(جرف ـ جلف) و(جنف ـ جلف)
[11]  ابن منظور، لسان العر ب، مادة: جرف
[12]  الخصائص: 147.
[13]  نفسه: 149.
[14]  لسان العرب، مادة: سحل.
[15]  نفسه، مادة: صهل
[16]  لسان العرب ، مادة: زحر
[17]  الخصائص، 2/150.
[18]  من بين ما يعده ابن جني أصلا في نشأة اللغة محاكاة أصوات الطبيعة، يقول:«وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء(...) وهذا عندي وجه صالح، ومذهب متقبل.» الخصائص: 1/46، 47.
[19]  أبو هلال العسكري، الفروق في اللغة، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الأولى، بيروت، 1973.
[20]  يكفي أ نذكر عنوان باب مثلا:«في الفرق بين أقسام العلوم وما يجري مع ذلك من الفرق بين الإدراك والوجدان وفي الفرق بين ما يضاد العلوم ويخالفها» نفسه ص: 72
[21]  نفسه، ص:146، 203، 228.
[22]  محمد ياس خضر الدوري، دقائق الفروق اللغوية في البيان القرآني، دار الكتب العلمية، بيروت، 2006.
[23]  تجاوز الباحث مفهوم الخصائص المميزة ليوسع من آلية الثنائية، وفي كتابه فقرات تظهر ذلك، نحو: "الألفاظ المتباعدة الأصوات " و"فروق الفاظ المتغايرة الحركات" وفروق الألفاظ المتعاقبة بين الواو والياء". ينظر الفصل الرابع من المصدر السابق، ص ص:279 – 314.
[24]  لسان العرب، مادة: فصم
[25]  مقاييس اللغة، مادة: فصم
[26]  مقاييس اللغة، مادة: قعد
[27]  تاج العروس، مادة: شبث.
[28]  لسان العرب، مادة: جمع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن الراوي في قصة موسى عليه السلام بين القرآن الكريم والتوراة

عن "اللغة العلمية" في البحث العلمي