عن "اللغة العلمية" في البحث العلمي
يجد عدد كبير من الطلبة صعوبة في فهم المقصود من " اللغة العلمية " ولاسيما أولائك الذين يباشرون البحث من مراحله الأولى. وقد يتعقد الفهم لديهم أكثر حينما يكتشفون من خلال مختلف تقنيات البحث ووسائله، أن أهم عرف ينبغي الانصياع إلى مقتضياته هو التواصل بـ"اللغة العلميةّ" في مجال البحث العلمي؛ ومعنى ذلك أن التعبير اللغوي في الخطاب العلمي ينبغي أن يتصف بخاصية العلمية، تلك الخاصية التي قد تمنح محتوى الخطاب قيمة كبرى، إذا ما توفرت معالم " اللغة العلمية " ومواصفاتها بنسبة محترمة، وقد تًفقد الخطاب ذاته القيمة نفسها إذا ما قَلّت هذه المعالم أو انعدمت هذه المواصفات.
ومما لا ينبغي إغفاله في هذا التحديد هو أن اللغة العلمية تمثل أداة واحدة من بين أدوات كثيرة، يكون الطلبة، من باب الافتراض، قد تلقوها في مختلف مراحل الدراسة والتحصيل، ولهذا فـالفهم الغالب من مصطلح البحث العلمي هو اكتساب هذه الأدوات بعد فهم وظيفتها وتمثل أبعادها، ثم العمل على تطبيق آلياتها وتفعيل عناصرها بشكل متكامل. ومن ثم يكون الهدف من "الفهم" و"العمل" هو تماسك محتوى الخطاب العلمي بكل مكوناته وعناصره أولا، وقيام تواصل متين بين الباحثين ثانيا.
من منطلق توجيه الطلبة الباحثين إلى فهم ملائم للغة العلمية نسأل أنفسنا من موقعه ما هي خصائص اللغة العلمية ؟
تتجلى خصائص اللغة العلمية، عند حدود هذا المقال، في العناصر التالية: المصطلح والمعجم والتركيب.
1. المصطلح:
من المسلم به أن المصطلح وحدة لغوية معينة قد اتفق العلماء فيما بينهم، بطرق مختلفة، على محتواها الدلالي وعلى صيغتها اللفظية. ولذلك ينفرد كل مجال علمي بمصطلحاته الخاصة، ما دام كل علم مستقلا بموضوعه وبمنهجه. ولهذا يفقد المصطلح قيمته العلمية حينما يوظف في مجال علمي لا ينتمي إليه أصلا. بيد أن الأمر ليس بهذه الصرامة الفاصلة، إذ غالبا ما يحدث أن يَستورد علم ما مصطلحا من علم آخر، وفي هذه الحال يخضع المصطلح المستورَد إلى تعديل معين في محتواه الدلالي لكي ينسجم مع وظائف مختلف الآليات التي انضاف إليها. ومهما يكن من أمر انتقال المصطلح بين العلوم فإن البحث العلمي يقتضي، بالضرورة، احترام المصطلح أثناء توظيفه من حيث لفظه ومن حيث دلالته؛ بمعنى آخر إذا اقتضى التعبير استعمال مصطلح واحد مرات متعددة في فقرة واحدة أو أكثر، وفي صفحة واحدة أو أكثر، فينبغي ألا يفهم من ذلك خلل في الأسلوب واضطراب في العبارة، لأن المصطلح مبني بناء صناعيا، ومن ثم لا يحق للعالم التصرف في معناه، كما لا يجوز للباحث، ولاسيما المبتدئ، التصرف في لفظه. وهكذا نستنتج، من خلال الممنوع عن الباحث في أمر المصطلح، أن المصطلح لا مرادف له.
2. المعجم
إن المعجم اللغوي هو أساس التواصل في البحث العلمي وفي غيره، ولهذا إذا كانت العربية الفصحى هي موضوع بحثنا هذا، فإن مجال الإبداع الفني والبحث العلمي يستعملان المعجم اللغوي نفسه، ويختاران منه ما يوافق حاجات كل واحد منهما.
وعلى هذا الأساس يكون القصد من المعجم العلمي مجموعة من الوحدات اللغوية التي يرجع مدلولها إلى الخطاب العلمي بمبادئه النظرية العامة وأسسه العلمية المتداولة. ونقول، بغرض التوضيح، إن معالجة قضية ما تستلزم أن توضع في إطار خطاب علمي معين، نحو الخطاب الديني أو الاجتماعي أو الاقتصادي، أو السياسي، أو الفني أو غيرها من الخطابات التي تجرب مختلف التصورات وتدرس بمختلف المناهج؛ وإلى جانب ذلك ينبغي أن نستحضر، في مراحل المعالجة، حضور المعجم العلمي بصورة خفية في كل خطاب على حدة. وهكذا نتصور أن الخطاب العلمي العام يعبر عن نفسه بجملة من القرائن النصية أطلقنا عليها مصطلح المعجم العلمي. فهي إذن، زمرة من الألفاظ المعجمية مشحونة بمدلول علمي، ينبغي أن تنضاف إلى المعجم اللغوي. وقد يتضح ذلك إذا اقترحنا المتن التمثيلي التالي:
· المبدإ (من مبدإ...، المبادئ العامة...، )
· الفرضية ( على افتراض...، لنفترض...، بناء على الفرضية...،)
· التصور (نتصور الموضوع...، )
· المفهوم ( ما يفهم...، يرتبط ذلك بمفهوم...،)
· النتيجة (نستنتج...، من نتائج ذلك...، قد ينتج...،)
· الملاحظة (ما يلاحظ من...، تؤدي بنا هذه الملاحظة إلى ...،)
· الملاءمة (نظرية ملائمة / غير ملائمة...،)
· الوصف ( معالجة وصفية...، يصف النص الظاهرة...،)
· التصنيف (يشير النص إلى صنفين:..، تنتمي الظاهرة إلى صنف..، يصنف النص..)
· التفسير( قد لا يفسر الأمر إلا بمبدإ...، وتجد الظاهرة تفسيرها في...،)
· التأويل (قد يجد تأويلنا هذا نسبة من المصداقية العلمية...،)
· البناء (بناء على الاستنتاج السابق...، كثيرة هي أشكال البناء نظري...،)
· التأسيس (إن أساس المصطلح هو مبدأ الاتفاق بين الجماعة العلمية...، لم تكن الأسس العلمية التي انطلق منها هذا التأويل قوية...،)
· الاقتضاء واللزوم (يقتضي هذا التحليل إدخال معيار...، ويلزم عن هذا الفهم أمران اثنان:...،)
· الوظيفة (لم يكن توظيف آلية المقارنة دقيقا...، فقد وظفنا في قراءة المتن الآليات التالية:...،)
·الاستدلال (ودليل ذلك...، والاستدلال على ما ذهبنا إليه نستحضر المثال التالي...،)
· الاستقراء (تكفي هذه النتائج لتعميمها على النماذج الغائبة...،)
· التجربة (لا بأس من تجريب هذه القراءة...، أوصلتنا هذه التجربة إلى...،)
3. الجملة
إن الطالب الذي يتمكن من المعجم العلمي ويمزجه بمعجمه اللغوي سيجد نفسه قد خضع بدون شعور إلى ضوابط الخاصية الثالثة من خصائص اللغة العلمية وهي الجملة. ذلك أن أهم خاصية تتصف بها الجملة في اللغة العلمية هي الابتعاد بصفة كلية عن استعمال المعاني المجازية والصور البلاغية نحو التشبيه والاستعارة والكناية وغيرها من العبارات الفنية التي غالبا ما تستعين بموجهات بلاغية. وبما أن الجملة تركيب بسيط بين وحدات معجمية فعلى الطالب الباحث أن ينتبه كل الانتباه إلى مكونات عباراته اللغوية، ويحتاط كل الاحتياط من أن ينساق إلى إغراءات الصور البلاغية في اللحظة التي يصوغ فيها جملا وعبارات، يُفترض أنها تعبر عن الفكرة التي يود إيصالها إلى المتلقي. ويراد من سلوك الاحتياط والانتباه هو قيام الطالب منذ البداية بإجراء منهجي يخضعه إلى اتباع مقومات توظيف المصطلح المناسب واستعمال المعجم العلمي المضبوط. وهكذا تصبح خاصية الجملة في اللغة العلمية ضابطا جامعا لمختلف الضوابط العلمية التي يعترف بها البحث العلمي ويحض على الأخذ بها.
وإذا أدركنا أن أعراف البحث العلمي تحرص على أن تكون الجملة خالية تماما من الصور البيانية والتعابير الفنية فإن ذلك يستجيب إلى هدف الضبط والدقة والوضوح في لحظة التواصل بين العلماء والباحثين، ولا يتأتى ذلك إلا إذا كان التواصل مباشرا، لأن في التواصل المباشر تنعدم فرص تأويل "العبارة النص" في الخطاب العلمي إلى فهم معان أخرى غير مرغوب فيها أصلا. ولهذا يحرص المرسل الباحث كل الحرص على ألا يجد المتلقي نفسه في ما يشبه هذه الوضعية التواصلية. ومن ثم فإن الجملة في درجة الصفر هي الكفيلة بتوحيد المرسل الباحث والمرسل إليه الباحث في خطاب واحد بمدلول موحد ذي مرجع أحادي اللغة.
وللاستدلال على هذا التصور ندعو كل طالب، بحسب مجال بحثه، إلى فتح أي كتاب معترف بقيمته العلمية، قديما كان أم حديثا، وليتبع الخطوات الآتية:
1. خذْ فقرة، أو صفحة، أو بابا من الكتاب نفسه وقسّم نصوصهما إلى جمل مستقلة
2. اِفحص مكونات كل جملة على حدة من أجل ضبط:
· المصطلحِ المستعمل
· وحداتِ المعجم العلمي وإحصائِها
· حضورِ المقومات البلاغية وغيابها
3. اِتبع ما ستكتشفه بعد أن تقتنع به، ثم اِلق بهذه الورقة جانبا ولا تعد إليها أبدا.
اشكرك استاذي الكريم على هذا المقال المتميز .لكن يبقى السؤال مطروحا فيما يخص اشكالية التعدد و التضخم التي يعاني منهاالمصطلح البلاغي و التي تحدث تشويشا للباحث في هذا المجال
ردحذفthank you so much for these informations it's very important
ردحذفالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ردحذفجزاكم الله خيرا أستاذي الفاضل الدكتور سيدي عبد الحي العباس على هذا المقال العلمي الهام، إن أجمل هدية يمكن أن يقدمها الأستاذ الباحث لطلابه هي مثل هذه المقالات المنهجية المفيدة والتي تغطي خصاصا في منهجية إعداد البحوث، أشكركم أستاذي الفاضل على جهودكم الطيبة والمتميزة في سبيل النهوض بالمستوى العلمي لكل الطلاب، لقد استفدت كثيرا من هذا المقال، واتبعت الخطوات التي اقترحها فلاحظت تغير نظرتي للكتابة العلمية، وكذلك أسلوب الكتابة والتعبير. وأدعو الله لكم -أستاذي الكريم- بموفور الصحة والقوة لتتمكنوا من تحقيق مزيد من الأعمال العلمية المفيدة.
طالبكم خالد التوزاني
كلية الآداب والعلوم الإنسانية - ظهر المهراز - فاس
بارك الله فيك أستاذنا القدير.. وزادك من علمه وفضله
ردحذفوجعلها بميزان حسناتك كمثل حبّة...
تحياتي لك وتقديري
أ. هبة خياري. جامعة عنابة. الجزائر
بارك الله فيك وجزاك كل خير على هذا المقال المفيد
ردحذفمتميز استاذي الفاضل
ردحذفاتمنى ان اتمكن من تنزيل هذا الامر على كتاباتي المستقبلية
واشكرك مرة اخرى باسم طلبة الفصل الثالث من ماستر الدرس اللغوي و العلوم الاسلامية على تفضلك بقبول تاطيرنا في هذا المجال و ما احوجنا الى ذلك
تقبل الله منك و دمت للعلم ذخرا