المعجم القرآني
المعجم القرآني وأثره في بناء المعنى
مادة[ مات، توفي، قُتل]
0.
يسعى هذا المقال إلى وصف شبكة من المعاني التي ينسجها
المعجم القرآني نتيجة تعالقه بجملة من المكونات اللغوية في مستواها الدلالي
والتركيبي والسياقي. ولعل في تحليل هذه الكلمات المعجمية (مات، تُوفي، قُتل)[1]
في القرآن الكريم ما يبيّن أن معالجة الامتداد الدلالي لكل كلمة على حدة
يؤسس ثوابت دلالية في مستوى المعنى الحقيقي، قد تكون مادة ملائمة للبحث في الخطاب
القرآني وتطويره في حال ما إذا اهتمت بها الصناعة المعجمية العربية.
1.
مفهوم التقارب ومبدأ الاختيار الملائم.
ليكن
منطلق التحليل الآيات القرآنية الكريمة الآتية:
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ
أَعْقَابِكُمْ﴾[3]
يتضح، من خلال قراءة فاحصة، أن ما يشترك
فيه الحقل المعجمي (الموت، والوفاة، والقتل) هو مدلول "العدم"
باعتباره معنى عاما. ولذلك يظهر أن مدلول الموت قريب من مدلول الوفاة
ومدلول هذين قريب من مدلول القتل. بيد أن هذا الاشتراك المعنوي لا ينفي
انفراد كلّ كلمة بما يميّزها من غيرها. ولا يكون مُميِّزُها سوى امتلاكها معنى
خاصا بها، تكون قد اكتسبته من تفاعلها بمختلف المكونات اللغوية والضوابط السياقية.
وللاستدلال على ذلك نلاحظ أن ظرف الزمان "حين" في الآية الأولى يمكّن
من تحقُّق الوفاة فعليا في اللحظة التي يتحقق فيها فعل الموت[5]
ومعنى هذا أن الموت ليس هو الوفاة، والعكس صحيح أيضا. ونلاحظ في
الآيتين الأخيرتين أن حرف العطف "أو" يُشرِك المتعاطفين في الحكم
الإعرابي ولا يشركهما في معنى الجملة؛ الأمر الذي نستنتج من خلاله أن مدلول الموت
ليس هو مدلول القتل. وهكذا يتضح أن معالجة مكونات الحقل المعجمي سيقتصر اشتغالها
على المعنى الحقيقي لكل وحدة على حدة وليس على المعنى المجازي.
تكفي هذه الملاحظة لنخلص إلى أن القرآن
الكريم لم يجعل هذه الوحدات المعجمية مترادفة[6]،
لأن العبارة القرآنية مبنية على الدقة التامة في التركيب المحكم، والمعجم المناسب،
والمعنى البليغ. ولذلك، اشتغلت هذه الوحدات المعجمية: "الموت"
و"الوفاة" و"القتل" في القرآن الكريم بما
اكتسبته من معنى خاص بها؛ ولم تشتغل بالمشترك المعنوي إلا بوصفه حقلا تنتظم داخله
المكونات اللغوية المعجمية. وعلى هذا الأساس نتساءل من موقع القارئ الطفل أو
القارئ الهاوي أو القارئ الباحث عن المعنى المعجمي الخاص الذي منحه القرآن الكريم
لكل كلمة من هذه الكلمات؛ إذ به يُعرف المقصود من الآيات القرآنية؟
من المسلم به في مثل هذه الحال الاستعانة
بالمعجم العربي قديمه وحديثه، ففي القديم منه نجد في لسان العرب[7]
والقاموس المحيط[8]
والمعجم الوسيط[9]:
[مات]:
الموت خلق من خلق الله (...) ضد الحياة.
[قتل]:
القتل معروف (...) قتله إذا أماته بضرب أو حجر أم سم أو علة ... [وفي]:
الوفاة: المنية. والوفاة: الموت. وتوفي فلان وتوفاه الله إذا قبض نفسه.
ومن
المعاجم الحديثة نجد في معجم الغني الزاهر[10]:
[مات]
الرجل: زالت الحياة عنه، توفي.
[قتل]ــه: أزهق روحه، أماته. قتله الله: أذله، لعنه.
[توفى]: أخذ روحه، أماته. توفى حقه: أخذه كاملا.
توفى المدة: بلغها.
يلاحظ إذن، أن هذه المعاجم وصفت مدلول
فعل "قتل" باعتباره فعلا متعديا بـ "مات" في
صيغته المتعدية "أمات" كما وصفت "الوفاة" بـ"الموت"
ووصفت "الموت" بـ"الوفاة". ولعل في اللغة
الواصفة، بهذه القيود الضيقة وبهذا الترادف الخفي، ما لا يساعد المتعلم والباحث
على فهم الحدود الفاصلة بين مكونات الحقل المعجمي بحسب ما جاء في القرآن الكريم،
ولا تساعد المرء، في الوقت نفسه، على اكتساب الثراء المعجمي، وإدراك ما تزخر به
اللغة العربية بثقافتها وقيمها المتنوعة.
وقياسا على ما
في القرآن الكريم من ثراء معجمي وغنى دلالي وما في المعجم العربي من قصور وصفي،
ندرك غياب الترادف في الخطاب الإبداعي، وما يمثله من نصوص الشعر والقصة والرواية
والمسرح وغيرها، في حين يكون الترادف حاضرا في اللغة الواصفة، إذ الوصف العلمي في
مختلف المجالات العلمية يكون باللغة.
3. الحقل المعجمي في القرآن الكريم
والامتداد الدلالي
سبقت الإشارة
إلى أن المعنى المشترك بين مكونات الحقل المعجمي هو العدم، وهذا المعنى يقتضي،
لعموميته، توضيحا مناسبا، نمثل له بما يلي:
(مات زيد) و(مات السبع)[11]
و(ماتت الشجرة)
(تُوُفي عمر) و(توفيت زينب)
(قُتِل بكر) و(قُتِلت هند)
تُظهر هذه الجمل أن الفاعل فيها أو ما
ناب عنه هو كائن حي، ولذلك يصبح المسند إليه في حكم العدم بحسب ما تدل عليه
الجمل، على أساس أن الجسم الحي سواء كان جسما عاقلا أم غير عاقل قد توقفت وظائفه
الطبيعية عن العمل، الأمر الذي ينتج عنه تفكك في الخلايا الحيوية
وتحلل في المكونات العضوية. ولعل في مظهر التفكك والتحلل هذين ما يمكّن الإنسان من
أن يلاحظ الشكل الخارجي لتجليات الموت؛ إذ باندثار الشكل المادي يكون الكائن الحي قد
ترك صورته الطبيعية وتخلص من هيئته الوجودية. وبعبارة أخرى، يكون الكائن الحي قد
غادر عالم الوجود ليدخل في عالم العدم. وهكذا نقول إن كلّ كائن حي، مهما يكن حجمه،
ومهما تكن قيمة وظيفته، كان في حكم العدم قبل وجوده المادي وبعده؛ أي قبل
حدث الحياة وبعد حدث الموت. فالكائن
الميت أو المتوفى أو المقتول معدوم. ومن ثم فالعدم، عند هذا الحد من
التحليل[12]،
هو المعنى المشترك بين مكونات الحقل المعجمي.
2.3.
"مات" في القرآن الكريم والفعل المقدس.
كثيرة
هي الآيات القرآنية التي استعملت فعل "مات" بمختلف الصيغ
الصرفية، بيد أن في الآيات الآتية ما يمثل موضوع التحليل:
﴿كيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[13]
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [16]
﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ﴾[18]
يكفي أن نقرأ هذه الآيات الكريمة بمعزل عن كتب التفسير[20]
لتستوقفنا جملة من القضايا نعرضها على النحو الآتي:
1. يُظهر
المتن بوضوح أن الله سبحانه وتعالى هو الوحيد الذي يُحدث "الموت".
فهو يُميت كلّ كائن حي لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه[21] ؛
ولهذا فالموت باعتبار مدلوله الإجرائي مسند بصفة مطردة ووحيدة إلى الله عز وجل.
وبموجب هذه الصفة قد يكون من المناسب على قواعد النحو في اللغة العربية أن تخصص فاعل
الموت بخاصية القدسية.
قد
تتعارض هذه الدعوة مع ما تسمح به بعض التراكيب اللغوية في العربية من إسناد فعل الموت
إلى "زيد" في (مات زيد) وإلى "السبع" في (مات السبع) وإلى
"الشجرة" في (ماتت الشجرة). بيد أن حدة هذا التعارض تزول إلى درجة
التوافق حينما نوسّع من مفهوم المطاوعة في الدرس النحوي، فنقول إن أصل جملة (مات
زيد) هو (أمات الله زيدا فمات زيدٌ)، والأمر نفسه في (مات السبع)، و(ماتت الشجرة).
وبآلية المطاوعة تفهم أمنية مريم في الآية الكريمة الآتية﴿قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ
قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾[22] ويسند فعل الموت، في الآن نفسه، في إلى الله سبحانه وتعالى. ومثل هذا
التخريج يسمح بقبول عدد من التراكيب في اللغة العربية على أساس أن الأصل في المسند
إليه مقدس لحضوره المطلق[23]
دلاليا في كل تركيب استعمل فعل "مات"[24].
قد يقال كيف يفهم إسناد فعل الموت إلى
غير الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة الآتية؟: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ
أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ
مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [25]
من
الواضح أن هذا الادعاء في هذه الآية جاء في
سياق حجاجي. ومن مقتضيات الحجاج غلبة أحد الطرفين بسبب قوة الحجة وتماسكها. وعلى
هذا الأساس نقول إن الآية الكريمة تضمنت حجة مفحمة؛ وهي أن الله سبحانه وتعالى يأتي
بالشمس من المشرق ويستحيل أن يقوم بهذا الفعل غير الله، فترتب عليها أن الله عز
وجل هو الوحيد الذي يميت لقدرته المطلقة على فعل أي شيء.
2. وردت كلمة
"الموت" مقرونة بكلمة "الحياة" في جلّ آيات
القرآن الكريم إلى درجة تمكننا من القول إنهما يكونان وحدة معجمية واحدة.
وإذا قبلنا شكل هذه الوحدة المعجمية فإن بنيتها تصبح قائمة على ثنائية يحكمها مبدأ
التقابل. ومعنى هذا أن فهم عنصر من هذه الثنائية وإدراك محتواها الدلالي يقتضي
بالضرورة فهم العنصر المقابل. وهذا المنعطف في التحليل يفرض نفسه على الوصف المعجمي
من حيث الشرح والتفسير، في اتجاه أن يدرك كلّ متعلّم للغة العربية، وكلّ باحث فيها
الأسسَ الدلالية والمعرفية التي تقوم عليها مثل هذه الثنائية. وهكذا يظهر أن
التوسع في التحليل الدلالي باستحضار طبيعة الامتدادات التي يقتضيها السياق في
القرآن الكريم إجراء منهجي لا يمكن الاستغناء عنه.
وعلى هذا الأساس، إذا استحضرنا ما
توصلنا إليه من قبل من أن الله سبحانه وتعالى قد انفرد لوحده بفعل "الموت"،
فإن هذا المعنى يلزمنا باستحضار انفراد الله سبحانه وتعالى كذلك بفعل "الحياة"؛
لأنه عزّ وجل، خالق كل شيء. وفي هذه الحال لا يمكن أن نفهم فعل "الخلق"
في القرآن الكريم إلا باعتبار "الحياةِ" هبةً، يمنحها سبحانه
وتعالى لمن يشاء. وبما أن فعل "الحياة" مسند إلى الله سبحانه
وتعالى وحده مثلما هي حال فعل "الموت" حسب المتن القرآني، فإن
ذلك يجعل مقومات الثنائية المعجمية منسجمة دلاليا وتركيبيا وعقديا؛ لأن في هذا
التقابل تبادلا للقيم المحدِّدة، إذ فعل "الموت" يكتسب قيمته
المعجمية من فعل "الحياة"، والعكس صحيح. وبهذا التحديد إذن، جاز
أن توصف الثنائية المعجمية بكونها وحدة معجمية واحدة.
3.
امتد المدلول المعجمي للثنائية إلى عرض مفهوم توالد
"الحياة" من "الموت" و"الموت"
من "الحياة"؛ إذ الحياة الدنيوية تولدت من الموت، وهي بدورها
ستنتهي بالموت الذي سينتفي هو نفسه بالحياة الخالدة[26].
وفي الآية الكريمة الآتية ما يكفي لتوضيح مفهوم توالد
الحياة من الموت: ﴿كيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[27].
فإذا حاولنا أن ندرك معنى الآية بدون توجيهات المفسرين[28]
وجدنا أنّ ظاهر الآية يخاطب العاقل بضرورة فهم الفعل المقدس في الوجود
المطلق. ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق هذا العالم بكلّ مكوناته وبكلّ
عناصره وجعل الإنسان سيد هذا العالم يستفيد منه حيث يشاء. ولهذا ففعل الخلق هذا
بما يتضمنه من أفعال أخرى مثل فعل الحياة والموت هو فعل مقدس تنجلي مظاهره
في تركيبة هذا الوجود. وبما أن الله سبحانه وتعالى قد أوجد هذا العالم بما يوافق
قدرة الإنسان واستطاعته فإننا نظنه وجودا مطلقا، ولا يعني ذلك أن وجوداً
آخر غير ممكن، ولكن قدرة الإنسان تقبل بمحدودية استطاعته وقصر تجاربه أن صفة المطلق
في هذا الوجود هي صفة إنسانية؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه أي شيء، بدليل معنى
الآية التي تقول: ﴿ أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [29]
مكنتنا ثنائية الموت والحياة من وصف فعل
الله سبحانه بالفعل المقدس في هذا الوجود الإنساني. وانتبهنا إلى أن توالد الحياة
من الموت والموت من الحياة هي من تركيبة الوجود المطلق، بيد أن هذا الوجود المطلق تركب
من مراحل ظلّ فيها الإنسان ولا يزال عنصرا محوريا[30].
ولتوضيح مراحل هذا الوجود نستحضر الآية الكريمة: ﴿كيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [31]،
ونقول:
قبل أن يولد الإنسان كان في حكم العدم، وهو "موت" من حيث الغياب
المطلق لأي قرينة مادية أو معنوية على وجوده (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا)؛
ثم انبثقت من العدم لحظة الولادة بعد فترة الحمل لتسجل هبة الحياة التي وهبها الله
سبحانه للإنسان(فَأَحْيَاكُمْ)؛ فكانت نعمة الحياة أصل كلّ النعم[32]،
إلا أنها ستنتهي بالموت الذي يعرفه الإنسان ويتعايش
معه بحسب ثقافة كلّ مجتمع (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ). ومن
المعلوم أن الخطاب القرآني يدفع بوعي الإنسان إلى الاعتقاد بأن هذا الموت هو معبر
إلى حياة خالدة (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ).
الموت
الأول الحياة الأولى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الموت
الأخير الحياة الآخرة
الــــعـــــــدم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الــــــعالـــــــم الــــــوســــــيــط ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الــخـــلـــود
الــظــلــمــات ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الــــــنـــــــــور
وهكذا، يبدو أن فكرة توالد عنصري
الثنائية من بعضهما تكتسب قيمتها الدلالية القوية في آيات قرآنية شبيهة في بنيتها
بالآية السابقة من نحو: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[33]
يظهر إذن، أن خطاب المعجم في ثنائية
"الموت" و"الحياة" يرسخ مدلول الفعل المقدس في بناء الوجود
المطلق، وهو مدلول قوامه البدء من العدم ونهايته الخلود. وما
بين العدم والخلود معبر عرضي.
ومن ثم يصبح المعنى المعجمي لهذه
الثنائية بهذا التوسع في التحليل هو الأصل الذي ينبغي أن تتبناه المعاجم وتنطلق
منه لتصفه الوصف الملائم. ولعل كلّ فهم يخرج عن هذا التحليل في حال ما إذا قبله
التركيب العربي يستحسن إرجاعه بلطف إلى الفعل المقدس في الوجود الطلق.
1.3. "توفي"
في القرآن الكريم ومدلول الكسب.
لعل
في الآيات القرآنية التمثيلية الآتية ما يسعف على تحليل المقومات الدلالية لفعل
"تُوُفي":
﴿وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ
كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون﴾[34]
﴿ومَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ
يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظلَمُونَ﴾[35]
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا
يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ
الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ [36]
﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ
كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾[37]
﴿ومِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [38]
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ
فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ
الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ﴾[39]
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ
عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ
لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا
أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾
[40]
تصادفنا
الآية (42) من سورة الزمر لندرك من خلالها استقلالية كل وحدة معجمية بذاتها على
الرغم من اشتراكها مع مثيلاتها في حقل معجمي واحد[41]؛ إذ نجد فيها أن حدث "الوفاة" يكون في لحظة
الموت
(اللَّهُ
يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) ،
ومعنى هذا، أن إدراك دلالة "الوفاة" يبقى اجتهادا ثقافيا توجهه مختلف
القراءات العلمية لكلّ من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة؛ لأن
"الوفاة" بحسب عموم المتن مبنية على دلالة ما بعد "الموت"،
وما بعد "الموت" لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى.
انطلاقا
من هذا التصور المبدئي تدعونا قراءة المتن إلى الوقوف على مجموعة من القضايا:
1.
ارتبطت كلمة "الوفاة"
ارتباطا مطردا بمفهوم الزمن (الأجل المسمى)، ومعنى هذا أن حياة كلّ كائن منتهية في
زمن لا يَعرف ميقاته إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنه انفرد لوحده عزّ وجل بتحديد أجل
كلّ كائن حي. وهذا انفراد ثالث ينفرد به سبحانه وتعالى لنفهم أن فعل
"الوفاة" بكل ما ينطوي عليه من معان فرعية هو جزء من الفعل المقدس في
الوجود المطلق. وهكذا، إذا كانت الآية (67) من سورة غافر من المتن قد بيّنت مراحل
الحياة البشرية من حيث الزمن، بدءً من حياة النطفة والعلقة وانتهاءً بحياة
الشيخوخة، فإن حكمة الله سبحانه وتعالى لا تقضي وفق تسلسل هذه المراحل الزمنية.
فالطفل يُتوفى قبل مرحلة الشباب: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ﴾[42]،
والشيخ لا يُتوفى في اللحظة التي يحتاج فيها إلى الموت:
﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ
مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾[43].
نستنتج إذن أن اقتران
معنى "الوفاة" بمفهوم الآجال يحض العاقل على ضرورة الإيمان بتصرف الله
سبحانه في خلقه مثلما يتصرف في تحديد آجال مخلوقاته: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ
فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ
الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ﴾ [44].
1.
يقتضي مفهوم
الأجل المسمى باعتباره مقوّما دلاليا من مقومات كلمة "الوفاة" استحضار
مفهوم الكسب وما يحيط به من مقومات دلالية، نحو: الوفاء والمحاسبة.
أما الوفاء فهو من المكونات الأولى
لمدلول "الوفاة" كما تشير إلى ذلك المعاجم العربية[45]. ومن
ثمّ يمتد هذا المعنى النواتي إلى افتراض طرفين بينهما "علاقة" يصعب
توضيحها إن لم نستعن بمثال محسوس يمكننا من فهم مدلول الوفاة. وفي هذه الحال نظن،
والله تعالى أعلم، أن سبحانه عز وجل منح الحياة إلى الإنسان على شكل " قرض"
ليكتسب بها ما ينفعه فيها أو يضره وفق أجل زمني، مع جهله المطلق[46] بتاريخ تسديده لما كسبه وهو تاريخ الوفاة. ويتأكد هذا
الوصف الاقتصادي بالآية (279) من سورة
البقرة: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا
تُظْلَمُونَ﴾
ليتحدد
المعنى الإجمالي الذي تكوّنه جلّ آيات متن "الوفاة"؛ وهو أن الله سبحانه
وتعالى يستردّ الحياة ويسترجعها بفعل القبض عليها في المنام وفي غيره؛ لأن الفعل المقدس في الوجود المطلق جعلها نعمة من
أغلى نعم الله.
ولم يكن فعل القبض والاسترداد هو المعنى
الوحيد من فعل الوفاة كما وضحنا سابقا، بل يراد منه أيضا العطاء، بمعنى أن الله
سبحانه وتعالى حينما يسترد الأنفس بوصفها حقوقه، فإنه يعطي الإنسان نتائج ما كسبه
في فترة حياته ويظهرها له كما تم تسجيلها. وهذا واضح من آية المتن الآتية: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ
تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ
يُظْلَمُونَ﴾
[47]
أما المحاسبة
فيسهل، بهذا التحليل، استيعاب مدلولها باعتبارها من مقومات كلمة
"الوفاة". ومن ثم فبعد أن يسترجع الله سبحانه نِعمه بفعل "الوفاة"
يحاسِب الإنسانَ على نتائج ما كسبه من تصرفاته المتعددة في حياته. والمحاسبة، على
هذا الأساس، من الفعل المقدس في الوجود المطلق بدليل آيات قرآنية[48] تؤكد
ذلك. ومن بينها الآية (62) من سورة الأنعام في المتن: ﴿ثُمَّ
رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ
الْحَاسِبِينَ﴾.
تدعونا المقارنة انطلاقا مما سبق إلى القول إذا كان فعل
"الموت" مما يعاينه الإنسان وينظر إليه ويدرك تجليه بفقدان الجسم الحي
لكل وظائفه، مع ما يصاحب ذلك من تحلل خلايا الجسم الحي إلى العدم، فإن فعل
"الوفاة" مما لا يستطيع الإنسان أن يعرف عنه أي شيء لأنه فعل يقوم به
الله سبحانه وتعالى، فهو إذن في حكم الغيب. ونظرا إلى قصور العقل البشري على معرفة
ما بعد الموت، فالظاهر أن الانسان عوض قصوره ذاك، بوعي أو بغير وعي، بضرب من التوسع
في لغته؛ إذ جعل "الموت" و"الوفاة" حدثا واحدا، في حين أن هذا
ليس ذاك بحسب الخطاب القرآني.
4.3. "قتل" في القرآن الكريم
والتنوع الدلالي
1.4.3. القتل والفعل الإنساني
يتطلب منا التنوع الدلالي لفعل
"قتل" بمختلف صيغه الصرفية في القرآن الكريم أن نمهد له بالآية الآتية،
على أساس أن نصنف المتن المقترح حسب المقومات المعجمية لمادة [قتل]: يقول سبحانه
وتعالى:
﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ
يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾[49]
تحيل
الآية الكريمة على قصة ابنَيْ آدم وما تستحضره من قضايا تتعلق بفعل
"القتل" الذي حدث لأول مرة في تاريخ البشرية، ومن ثم أثارت الآية
الكريمة أمرين اثنين:
صرحت في أولهما أن فعل
"القتل" كان سلوكا إنسانيا ولا يزال إلى الآن. من هنا فقد أسندت
الآية الكريمة فعل "القتل" منفيا إلى الأخ المؤمن؛ إذ المانع من محاولة
قتل أخيه خوفه من الله سبحانه. في مقابل ذلك، سقط هذا المانع لدى الأخ الكافر،
فكان القتل:
﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ
الْخَاسِرِين﴾[50]
ومكّنت في ثانيهما من أن نقوم
بعملية إحصاء لضبط مَن أُسند إليه فعل القتل في القرآن الكريم فتأكد إسناده إلى الانسان[51]،
إنْ في معناه الحقيقي أو معناه المجازي[52].
وهكذا، يدعونا إسناد فعل
"القتل" إلى العاقل في القرآن الكريم إلى الانضباط لهذا القيد التركيبي
من زاوية التعبير اللغوي؛ إذ المراد من ذلك أن مستعمل اللغة العربية ينبغي أن
ينتبه إلى أنّ مادة [قتل] تتكون من أول مقوم معجمي هو إسناد الفعل إلى
العاقل. وعلى هذا الأساس، يصبح الخطاب القرآني مصدرا لغويا يرشد كلّ مستعملي اللغة
العربية إلى ضرورة الإدراك بمختلف الضوابط المعجمية التي منحت معاني القرآن الكريم
منتهى الدقة والضبط.
بيد أن هناك جملة واحدة أسند فيها فعل
"القتل" إلى الله سبحانه وتعالى: ﴿قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ﴾، وقد
وردت هذه الجملة في آيتين هما:
· ﴿وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى
ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ
ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾[53]
· ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ
خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ٱلْعَدُوُّ
فَٱحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾[54]
استدعى هذا الاستثناء الرجوع إلى معظم
كتب التفسير، فكان اتفاقها قائما على أن سياق الآيتين جعل من جملة ( قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ ) إنشائية
تفيد الدعاء[55].
فالدعاء هو طلب من الله سبحانه وتعالى بقتل الكفار. وعلى هذا الأساس توسعت كتب
التفسير في شرح الآية الكريمة، إذ نجد، إلى جانب الدعاء معنى التعجب، ومعنى
المبالغة.
أما معنى التعجب فقد قال فيه الزمخشري:
«هم أحقاء بأن يقال لهم هذا، تعجباً من شناعة قولهم، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء: قاتلهم
الله ما أعجب فعلهم»[56]. ولعل المعنى نفسه موجود في قول ابن عاشور: «دعاء
مستعمل في التعجيب، وهو مركّب يستعمل في التعجّب من عمل شنيع»[57]. وأما معنى المبالغة فظاهر من وجهين:
الأول تأويل جلّ
المفسرين بأن "قتل" يراد بها "لعن"[58]، وفي ذلك يقول الألوسي: «لعنهم الله وهو معنى مجازي
لقاتلهم»[59]
الثاني ورود «
المفاعلة فيه للمبالغة في الدعاء»[60]
وبهذا
التحليل يخرج إسناد فعل "القتل" من الفعل المقدس (يحيي ويميت) ويبتعد منه طالما أن معنى الآيتين لم يخرج من
وظيفة الدعاء في أسلوب الطلب. ومن ثمّ لا تمكّن وظيفة الدعاء من الجزم بأن
"القتل"، في حال الاستجابة الإلهية، سيكون هو نفسه الذي يدركه المرء
حينما يسند الفعل إلى الإنسان.
يسهل الآن إذا انطلقنا من
نتائج معالجة فعل القتل في القرآن الكريم أن نفهم بعمق بعض تأويلات المفسرين
لمختلف الآيات التي ورد فيها فعل القتل. ومن أمثلة ذلك ما جاء في سورة البروج: ﴿قُتِلَ
أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ﴾ [61]. بين الرازي أن
تركيب الآية القرآنية يفيد الدعاء من جهة، وفي هذه الحال فأصحاب الأخدود هم
القتلة الذين قتلوا فئة مؤمنة، ومن ثم جاء الطلب بأن يقتلهم الله. وتفيد الخبر من
جهة أخرى من حيث إن أصحاب الأخدود هم المؤمنون الذين قتلوا بالنار. وفي الوجهين
معا يتأكد أن فعل القتل فعل إنساني مهما يكن من أمر إسناده.
1.4.3.
فعل
القتل ومقوم الجريمة.
بيّن سبحانه وتعالى أن فعل
"القتل" الأول في قصة ابني آدم كان جريمة عظمى، إلى درجة أن
القرآن الكريم ساوى بين قتل النفس الواحدة وبين قتل الناس جميعا. ولهذا ألزم
القرآن الكريم المجتمعات المسلمة بجملة من التشريعات والقوانين التي تعاقب كلّ
إنسان قام بهذا الفعل. ويظهر ذلك في ما يلي:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ
وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾[62]
ميّز الله سبحانه وتعالى في هذين
الآيتين "القتل العمد" من "القتل الخطأ"، مع الحرص على بيان
أن المقتول مؤمن بالله. ولهذا كان أثر القتل الخطأ منحصرا في طبيعة علاقة
القاتل بمحيطه. ولذلك جاءت العقوبة بأبعادها الاجتماعية متشددة لكي لا يتصدع
المجتمع الإسلامي. أما القتل العمد فإن صريح الآية يبين أن الله سبحانه
وتعالى حدد لصاحبها عقابا خاصا يوم القيامة، وهو عقاب لا تسعف العبارة اللغوية على
وصفه.
بهذا
الضرب من المعالجة تنضاف صفة الجريمة باعتبارها من مقومات المعجم القرآني
لفعل القتل، إلى مقوم الإسناد إلى العاقل. وعلى هذا الأساس نتساءل هل انضبطت
المعاجم اللغوية إلى ما انطوت عليه هاته المقومات من معنى؟
1.4.4.
فعل
القتل وقيود الشرعية.
تجرنا مسألة فعل "القتل"
بوصفه جريمة كبرى وما بني عليها من عقوبات إلهية إلى معرفة القيود الشرعية التي
تبيح فعل "القتل". ولعل في الآيات الآتية ما يوضح معنى القيود بصفة
عامة:
﴿وَقَاتِلُواْ
فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ
لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ﴾[63]
﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ
أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾[64]
﴿قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ
أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ﴾[65]
الظاهر أن الله
سبحانه وتعالى شرع القتال للمؤمنين[66]
وأمرهم به في حال الدفاع عن النفس، سواء كان الدفاع فرديا أم جماعيا، فالأول دفاع
عن العِرض والمال والأهل﴿ وَقَدْ
أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾[67].
والثاني دفاع عن العقيدة والوطن ﴿وَأَخْرِجُوهُمْ
مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾[68]. فالقتال
إذن، مشروط بأن يكون ردّ فعل ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾[69]، ومشروط
أيضا بعدم الاعتداء ﴿ولاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ
ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ﴾[70].
وإلى جانب قيود القتل وشروطه، فقد اقتضى المتن صورة أخرى للقتل وهي الفتنة؛
لأنها أشد وقعا على المرء من القتل. وهي إشارة ضمنية إلى البدء باتخاذ مختلف
الوسائل والطرق التي تؤدي إلى الفتنة، مع ترك فعل القتل إلى الأخير. وقد بين
الزمخشري هول الفتنة ووقعها على المرء قائلا إن:« الإخراج
من الوطن من الفتن والمحن التي يُتمنى عندها الموت. ومنه قول القائل:
لَقتلٌ
بِحدّ السيف أهونُ موقِعاً على النّفسِ
من قتلٍ بحدّ فِراقِ»[71].
النتائج
وهكذا يظهر أن
هذا الضرب من المعالجة لحقل معجمي ضيق من حيث المكونات ومن حيث الدلالة على المعنى
الحقيقي فقط أوصلنا إلى بعض النتائج نعرضها على الشكل الآتي:
1.
إن توظيف فكرة
الترادف في الخطاب العلمي بنسبة معقولة وفكرة اللاترادف في الخطاب الإبداعي يؤصل
وعيا بالحدود القائمة بين اللغة الواصفة واللغة "الشعرية". وبهذا التصور
يمكن مراجعة جملة من المبادئ والأسس والإشكاليات التي وجهت عددا من الدراسات
اللغوية والنقدية في التراث العربي القديم.
2.
إن القرآن
الكريم مصدر من مصادر التقعيد اللغوي في مختلف المستويات، ولايزال كذلك إذا
استطعنا أن ندرس المعجم القرآني بما يمكن من تقوية المعاجم اللغوية الأخرى. وهكذا
إذا أضفنا في المعاجم العربية إلى معنى الموت مثلا مدلولا نحو :«هو
من نعم الله، فاعله هو الله سبحانه» نكون قد خصصنا حيزا مكانيا
للخطاب الديني بصفة عامة. ولعل في هذا الاقتراح دعوة إلى تأليف معجم خاص بالقرآن
الكريم.
3.
إن الاشتغال
بهذا التصور من شأنه أن يساعد على ضرورة التفكير في تفسير جديد للقرآن الكريم في
مستوى القضايا الكبرى، والمراد بذلك تزكية مكتبة التفسير بمشروع ينطلق من حصر
قضايا قرآنية كبرى وما يتفرع عنها، وتفسيرها بتجميع مختلف الآيات التي تكوّنها.
وقد يقتضي ذلك التوسع باستحضار السياق اللغوي وتوظيفه بالشكل المناسب في آليات
التفسير.[72]
الهوامش
الهوامش
(1) المانع من إلحاق
كلمتي: (هلك) و(نفق) في الحقل المعجمي موضوع البحث تنوع
محتواهما الدلالي إلى درجة تجعل من مكونات الموضوع غير منسجمة، ومبدأ عدم
الانسجام يتعارض والتصور العلمي الحديث. ولتوضيح ذلك
نقول:
1. بين الوصف المعجمي لمادة (هلك) واستعمالاتها اللغوية في
القرآن وغيره تنوعا مكثفا يضعف معناها القريب من المشترك في الحقل المعجمي، ومن ثم
فهي تعني الموت في نحو قوله تعالى: ﴿ وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ﴾ (الجاثية: 24)، وتعني الفساد
في نحو قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا
تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ
وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ﴾ (البقرة: 205)، وتعني العقاب نحو قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ
أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ
الظَّالِمُونَ﴾ (الأنعام: 47)، وتعني
الكسر والسقوط في معجم مقاييس اللغة لابن فارس. وهذا المعنى يفهم بوضوح في علم
الاقتصاد بمصطلح العُمر الافتراضي: l’amortissement .
2. يتبين التنوع
الدلالي من خلال الاشتقاق الصرفي لمادة (نفق) على على الشكل الآتي: فهي تدل على نقص
من القيم النافعة؛ وهذا واضح من مدلول النفقة الأسرية، ومن مدلول نفوق
الدواجن والمواشي بمعنى ماتت وضاعت بغير مقابل، وهذا المعنى لصيق
بمفهوم الرأسالمال وقيمه، وواضح أيضا من نفقت السلع بمعنى راجت. انظر لسان العرب:
مادة (نفق).
(11) لعل تنوع معنى (نفق) وارتباطه بمدلول ضياع قيم الرأسمال، سواء أكان الرأسمال نقدا أم ماشية أم دواجن أو غيرها من الأنعام لا يوافق استعمال (نفق الأسد)، ومن ثم نرى أن عبارة (مات السبع) ملائمة أكثر.
(21) يفهم معنى فناء هذا العالم وموت ما فيه مما جاء في سورة الرحمن: ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) (26 )، (27).
« كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء» الزمخشري، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار إحياء التراث العربي، ط2، 2001، 1/151.
«اتفقوا على أن قوله: (وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا) المراد به وكنتم تراباً ونطفاً» أنظر الفخر الرازي، التفسير الكبير، حققه:عماد زكي البارودي، المكتبة التوفيقية- مصر، د.ط/2003، 2/149.
إن « الإنسان كان مركب أشياء موصوفاً بالموت أي لا حياة فيه إذ كان قد أخذ من العناصر المتفرقة في الهواء والأرض فجمعت في الغذاء وهو موجود ثانٍ ميت ثم استخلصت منه الأمزجة من الدم وغيره وهي ميتة، ثم استخلص منه النطفتان للذكر والأنثى، ثم امتزج فصار علقة ثم مضغة. كل هذه أطوار أولية لوجود الإنسان وهي موجودات ميتة» الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، ب .ت، 1/375.
أما اليوم فالمتداول من المعاني هو أن النطفة والعلقة والدم والغذاء خلايا حية وليست ميتة بالمعنى الحقيقي.
(29) إبراهيم: (19)، وينظر: فاطر: (16)
(34) آل عمران: (27)
(46) يقول ابن منظور: «وفي: الوفاء: ضد الغدر، يقال وفى وأوفى بمعنى(...) وقد جمعهما طفيل الغنوي في بيت واحد في قوله:
أمَّا ابن طوْقٍ فقد أوفَى بِذمَّتهِ كما وَفَى بقِلاصِ النّجمِ حادِيها»
لسان العرب، مادة [وفي]
(49) كثيرة هي الآيات القرآنية التي ورد فيها مفهوم الحساب بصيغ متعددة وفي سياقات مختلفة نذكر بعضا منها:
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ البقرة: (202)
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ إبراهيم: (41)
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ إبراهيم: (51)
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ إبراهيم: (51)
(50) المائدة: (28)
﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ البقرة: (61)
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ آل عمران: (21)
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾ القصص: (33)
· ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ البقرة: (54)
· ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ البقرة:(85)
(62) البروج: (4)
السلام عليكم عفوا او البحث عن المستوى المعجمي فهل لكم بتزويدي باسماء مصادر في هذا المجال ولكم جزيل الشكر
ردحذف