أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمد: 24)

الخطاب الفاصل بين الطلب وجوابه
في قصة يوسف عليه السلام
من الآية: 36 إلى 41 من سورة يوسف

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.

موضوع هذا المقال الخطاب الفاصل بين الطلب وجوابه في الآيات الآتية من سورة يوسف عليه السلام:
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
ورد في هذا المتن فعل الأمر ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ دالا على الطلب في الآية: 36 أما جوابه فقد جاء في الآية:41 ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ... بيد أن الآيات الأخر (40،39،38،37) فقد فصلت بين الطلب وجوابه؛ وهو فصل طالت سعة قراءته إلى درجة تدعو إلى التساؤل عن الدلالات العميقة من لهذا التركيب اللغوي في القرآن الكريم، وعن الأبعاد التواصلية لهذا الضرب من الخطاب.

مشروعية السؤال
يأخذ هذا الضرب من البحث مشروعية علمية حينما نجد الوضعية التواصلية نفسها في آيات أخر من قصة يوسف عليه السلام بالسورة ذاتها، وقد خلت من الفصل بين الطلب وجوابه: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) ، فـالطلب واضح في الآية 46 وجوابه المباشر[1] في الآية 47. إلى جانب ذلك حافظ سياق القصة على العناصر الثابتة لأسلوب الطلب في المتنَيْن معا، إذ بقي يوسف عليه السلام هو المطلوب منه وبقي تأويل الرؤى هو الهدف من الطلب أما الطالب فهو موقع قصصي واحد شغله في الأول صاحبا يوسف في السجن وفي الثاني الملك بعد أن أذن لرسوله بالتوجه إلى يوسف طلبا لتفسير الرؤيا.


الطلب وجوابه في سياق القصة
لا يمكن البحث عن استراتجية هذا الخطاب الفاصل إذا لم نستحضر جملة من المعطيات القصصية التي ترتبط بتقنية المشهد وعلاقتها بضوابط السرد[2]ومن ثم، فقد اتخذ أسلوب الطلب وجوابه وما بينهما من خطاب فاصل شكْل مشهد قائم على الحوار. وهذه حال تقتضي غياب تقنية الحكي براويهِ ليمارس المشهد وظيفةَ عرض محتواه بصفة مباشرة؛ ويعني هذا أن فعل الحكي هنا قد اقتصر على نقل الحوار نقلا أمينا؛ بغرض أن يستوعب المتلقي مدلول الوقائع القصصية بزمنها الماضي على أنها تقع في الزمن الحاضر باعتبار لحظة التلقي[3]. وهكذا، تمكننا هذا المعطيات من القول إنّ يوسف عليه السلام قد تلفظ، في هذا المشهد بنوع من الحرية، بالكلمات ذاتها وبالعبارات عينها دون أن يكون فعل الحكي قد تدخل ليغير من صيغتها ومن بنائها.  
وعلى هذا الأساس ينطوي هذا المشهد على معنى مفاده أن يوسف عليه السلام كانت أمامه خيارات تعبيرية متعددة:
1.    تأخير الخطاب الفاصل عن جواب الطلب.
2.    تقديم الخطاب الفاصل على الطلب.
3.    حذف الخطاب الفاصل من أسلوب الطلب.
لم يتقيد يوسف عليه السلام بهذه الخيارات، بل رام إلى فصل صناعي أخّر بموجبه تفسير رؤيا صاحبيه، على الرغم من عدم الانسجام الظاهر من القراءة الاستكشافية، بين محتوى الخطاب الفاصل وبين محتوى الطلب[4].
كل هذه المعطيات إذن، تشير إلى أن يوسف عليه السلام تعمّد الفصل بين الطلب وجوابه وفق هندسة خاصة تعبر عن دلالات عميقة وعن مقاصد بليغة؛ يمكن ضبطها إذا تأملنا جيدا بناء المشهد كلّه.

مقومات الطالب والمطلوب منه
تقوم ثنائية الطلب وجوابه على تقابل تداولي بين مقومات دلالية خاصة بكل من الطالب والمطلوب منه؛ إذ الطلب سلوك يعبر بصدق عن افتقار الطالب إلى ما يطلبه. فهو يمثل إذن، لحظة معيشية قد تطول وقد تقصر، يشعر الطالب فيها بنقص محدد إلى شيء معين. ولذلك، تختفي لحظة الطلب بمجرد حصول الطالب على ما يحتاج إليه. ومن هنا، لم يقم الطالب بسلوكه هذا إلا للظفر بما يراه ذا قيمة نفعية؛ وهذه حال تثبت أيضا أن إدراك الطالب، بوعي لما له قيمة نفعية، لم يحصل إلا بعد ممارسة عقلية وتفكير ملائم. في مقابل ذلك تؤكد الثنائية أن المطلوب منه هو المالك بشكل أو آخر، لجملة من القيم. فمحتوى الطلب إذن، يكون دائما في حيز المطلوب منه بقوة الملكية، ويكون دائما خارجا من حيز الطالب بقوة الافتقار.
وتقوم على هذا المستوى التداولي من هذه الثنائية مقومات دلالية عامة مفادها أن المالك قوي بسلطة معنوية بقوة ما يملك، ولهذا فهو في درجة عالية اجتماعيا وثقافيا، بينما الطالب ضعيف وفقير، وهو في درجة أقل من المالك. وهكذا قد يتساوى الطالب والمطلوب منه حينما يتنازل المطلوب منه ويمارس إجرائية انتقال ما في ملكيته إلى حيز المفتقر له.
يسهل علينا الآن بهذا التحليل أن نستوعب ما تعالق مع حدث دخول يوسف عليه السلام إلى السجن، فالفتيان مفتقران إلى فهم مناسب لرؤيا سبق لهما أن رأياها، فهما باحثان عن معرفة معينة، وقد أدركا بوعي عميق قيمة هذه الرؤيا ومغزاها، فهُما في درجة دنيا ثقافيا واجتماعيا. أما يوسف عليه السلام، باعتباره مطلوبا منه، فهو المالك للمعرفة، والعالِمُ بعمق، قيمة ما يملكه من نفع تفيده وتفيد غيره[5].
وإذا وضعنا هذه الثنائية في فضاء السجن فسنجد أن الفتيين مسلوبا الحرية وفي درجة دنيا، ومن ثم فهما يعاقبان عقابا مزدوجا. بينما يوسف عليه السلام، وإن كان مسلوب الحرية، فهو بقدرته المعرفية وبدرجته العالية يمارس، بحرية تامة، نشاطا عقليا وإنتاجا معرفيا، تجلى في القدرة على تفسير الرؤى. وهي قدرة صرح يوسف عليه السلام أنها فضل من الله سبحانه وتعالى: ﴿ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾،   وهذا ما يجعل السجن عاجزا عن منع حرية العلم والمعرفة. ولهذا فعقوبة يوسف عليه السلام كانت جسدية ولم تكن معرفية وثقافية. فكيف إذن، يُدرك محتوى الخطاب الفاصل أمام هذه المقومات الدلالية الخاصة بكل من الطالب والمطلوب؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن لا علاقة بين الخطاب الفاصل وبين الطلب وجوابه. غير أن الأمر ليس كذلك إذا تأملنا جيدا محتوى الخطاب الفاصل على ضوء المقومات الدلالية الطالب والمطلوب منه. ومن ثمّ، يبدو أن الإجراء المناسب هو تقسيم الخطاب الفاصل إلى قسمين: يُحدَّد القسم الأول بجملة من القرائن اللغوية المعبرة عن ضمير المتكلم "أنا"، بينما يعرف القسم الثاني بجملة من الضمائر النحوية المعبرة عن "أنت"

ضمير "أنا" وآياته:
 ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُ
ونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) ﴾
        تؤدي القراءة الإجمالية لهذا القسم الأول إلى أن يوسف عليه السلام صرح بطريقة ضمنية بجملة المعاني المنضوية تحت معنى واحد وهو إثبات الذات:
1.    لم يثبت يوسف عليه السلام ذاته فقط باعتباره من المحسنين وفق وجهة نظر صاحبيه، بل برهن عليه السلام أنه يمتلك سلاح المعرفة وآلية تأويل ما قد يقع قبل وقوعه. وبهذا المعنى يثبت لنفسه سلطة قوية مصدرها المعرفة التي يملكها وحده داخل السجن وخارجه. وفي القرآن الكريم ما يقوي من هذا التحليل: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الزمر: 9. وبعبارة فيها بعض التجاوز وقليل من التوسع، نقول إن عِلم يوسف عليه السلام ومعرفته ضرب من المعرفة بالغيب. وبهذا يتعالى من درجة الإنسان العادي إلى درجة الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله سبحانه.
2.    أثبت يوسف عليه السلام ذاته باعتبار نسبها إلى أجداده الأنبياء وباعتبار أصولها في تاريخ التوحيد، واستمرار أثر ذلك الإرث في زمن الخطاب على الأقل. وقد جاء إثبات الذات هنا بحجة العلم والمعرفة على تأويل الرؤى، وهي هبة مقدسة منحها الله سبحانه وتعالى عبده هذا لأنه من سلالة التوحيد.
3.    إثبات يوسف لعقيدته الموحدة وإعلانه عن دينه القائم على عبادة الله وحده وعلى عدم الشرك به، كما هو صريح الآية. ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ  
كل هذه المعاني ترسخ لدى صاحبي يوسف في السجن، إنْ فهِما عمقها، قيمة المطلوب منه ورفعته، الأمر الذي يجعل من التأثير فيهما وفي غيرهما أمرا ميسرا؛ بل وتكون نسبة نجاح ذلك التأثير قوية جدا. وبعبارة بسيطة نقول إن ما تنطوي عليه وظيفة آيات ضمير "أنا" هو مغزى عميق، مفاده: أن ما فسّره يوسف لصاحبيه في السجن الآن وللملك لاحقا مصدره الله سبحانه وتعالى[6]، بوصفه إلها واحدا يعبده يوسف الآن وسيعبده من بعدُ، كما عبده آباؤه وأجداده من قبلُ. ومن ثم فعلى كل متلقٍ أن يدرك أولا، أنّ من يفتقر دائما إلى الله سبحانه وتعالى لن يفتقر إلى أي بشر في الدنيا؛ مثلما هي حال صاحبي يوسف في لحظة التواصل، وعلى كل متلق أيضا أن يتصور ثانيا، يوسف بشرا مثل باقي البشر.
بهذا التحليل إذن، يفهم أن يوسف عليه السلام يخاطب متلقيه من موقع السيادة الناتجة ضمنيا عن عقيدة التوحيد التي وهبه الله سبحانه وتعالى عبرها قوة العلم والمعرفة. وبهذا الفهم قد تظهر بوادر معاني خطاب ضمير "أنت"

ضمير "أنت"وآياته:
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
تنبني معاني هذا القسم من الخطاب الفاصل على محتوى القسم الأول من الخطاب ذاته. فإذا كان صاحبا يوسف عليه السلام يفتقران إلى القيمة النفعية لما رأياه، وإذا كان طلبهما مبنيا على يقينهما بامتلاك يوسف عليه السلام قدرة علمية على تأويل ذلك، ثُم إذا كان يوسف قد عمق لهما يقينهما بامتلاكه هبة مقدسة منحها الله سبحانه وتعالى إليه؛ إذا تحقق كل ذلك سهل على يوسف الآن، أن يدمر عقيدتهما القائمة على تعدد الآلهة. ولم يكن التدمير سهلا على يوسف عليه السلام إلا لأنه يدرك أن صاحبيه مهيآن من قبل لقبول ما سيسفر عنه تفسير الرؤيا وتأويلها. والظاهر أن هذا القصد هو أساس استراتجية الخطاب الفاصل.
وللاستدلال على ذلك نشير إلى أن يوسف عليه السلام قد ابتدأ كلامه باستفهام ينكر به تعدد الالهة إنكارا مشحونا بنوع من الاستغراب. ويرفض رفضا قويا ما كان من أمر عقيدة صاحبيه. ومن ثم فلم يكن قصد يوسف من استعماله للاستفهام الإنكاري إقناع صاحبيه فقط، بل اتجه بذلك إلى زعزعة عقيدتهما بناء على الإدراك العقلي، إذ المعروف أن من خصائص الاستفهام الإنكاري مخاطبة العقل، ليس بإقناعه بالحجة العقلية والدليل المنطقي، ولكن بحضه أيضا على مراجعة مسلماته ومبادئه مراجعة تهدف إلى أن ينظر المتلقي في ما يحيط به من مظاهر طبيعية توجه عقيدته إلى عبادة الله والإيمان به إيمانا قائما على مبدأ التوحيد. وهكذا يفهم من الآية الكريمة أن إنكار يوسف عليه السلام قد لا ينحصر في صاحبيه فقط ولكنه يتجاوزهما إلى المتلقي المطلق. وبهذا يكون الاستفهام الإنكاري قد اكتسب قيمة مضافة تتجدد دائما بتجدد البحث.
لم يكتف يوسف عليه السلام بخلخلة ما يعتقده صاحباه، بل تابع زعزعة ذلك إلى مستوى التدمير  ببيان فساد ديانة هؤلاء القائمة على الشرك والتعدد، مثبتا في الآن نفسه أن المنهج القويم في العقيدة هو عبادة الله سبحانه وتعالى وحده والامتثال لأوامره، لأن ذلك هو الدين الصحيح باعتباره مصدرا للمعرفة السليمة التي تنفع المرء وغيره. وهذا معنى واضح من آيات ضمير "أنت". وقد عملت أحداث القصة على إثبات شرعية عقيدة التوحيد التي أعلن عنها يوسف عليه السلام؛ إذ بتأويل رؤيا الملك لاحقا تأويلا ملائما، بحكم نبوته، يكون يوسف قد قام بعمل نفعي تمثل في بناء مجتمع متماسك واجه بقوة، أزمة اقتصادية عمرت سبع سنوات. فالمجتمع القوي إذن يتأسس على عقيدة نافعة هي عقيدة التوحيد.
بهذا التحليل ندرك أن هندسة الخطاب الفاصل لم يكن إلا ترسيخا لضوابط فعل التواصل بين الطلب وجوابه، لأن الخطاب الفاصل كان مبنيا بناء محكما، بدليل أن محتوى قسم ضمير "أنا" يعد مرجعا يستمد منه المطلوب منه مشروعيته، ويحقق على أساسه قسم ضمير "أنت" استمراريته في الوجود بتجاوز أزمة الجدب والقحط. ومن ثم فعلاقة الاستلزام بين القسمين هي أساس حدث تفسير الرؤية باعتبارها مشروعا مجتمعيا عبرت عنه اللغة ومنحته الصبغة الوجودية بالطلب وجوابه.

رمزية السجن وامتدادها
قد تكون نتائج هذا التحليل معلنة بمحاولة الإجابة عن السؤال الأصل، بيد أن هذه المحاولة بهذا النمط تنطوي على سؤال يفرض نفسه بقوة، وهو: لماذا ورَد الخطاب الفاصل في سياق أحداث رؤيا صاحبي يوسف في السجن ولم يرد في سياق أحداث رؤيا البقرات العجاف، مادام بناء الأحداث نفسها في القصتين من حيث المكونات ومن حيث العناصر ومن حيث المحتوى؟
من المسلم به أن الديانات السماوية جاءت لتخرج البشرية من الظلمات إلى النور، ويقتضي هذا أسبقية الظلمة على النور، ومن ثم شكل السجن في قصة يوسف رمزية الظلمة التي تشبه، بشكل أو بآخر، رحما انبثق منه نور الهداية الذي عمّ أثره الطيب المجتمع كلّه. ولا شك أن هذا المعنى بما ينطوي عليه من مدلولات السجن نحو الظلمة والعزلة والعقوبة وغيرها، مفارقة لمدلولات رؤيا الملك للبقرات العجاف. وبهذا الفهم الذي يحتاج إلى قوة الاستدلال، يأخذ السجن أبعادا رمزية تتجاوز حدود البعد المكاني وما يرتبط به؛ إذ الظاهر أن الله سبحانه وتعالى يختار المكان المناسب ليوحي إلى رسله الأخيار رسالاته. وعلى هذا الأساس، قد يأخذ هذا الفهم نسبة من المقبولية إذا استحضرنا من القرآن الكريم بعض النماذج التي سجلت بعض معالم المكان وأبعاده الرمزية في المشهور من الديانات السماوية.
 من المعروف أن الله سبحانه وتعالى كلّم موسى عليه السلام ليلا وفي مكان بعيد خال من كل كائن. ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾  طه:8، 9، 10. ولهذا كان الليل ملائما ليهتدي موسى إلى نار مضيئة، سرعان ما تحولت إلى نور الهدى. وإلى جانب ذلك، نجد في قصة عيسى عليه السلام أن مكان ميلاده كان بعيدا عن قومه: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا مريم: 21، 22. ويظهر بهذا المعنى أن مدلول العزلة المكانية والاجتماعية دلالة رمزية لصورة السجن التي تمثلت في دلالة الرحم في قصة عيسى؛ لأن عيسى كلّم قومه بمجرد ما ولد، لأنه نور الهداية. ولم يكن لهذا النور أن ينبعث إلا من رحم ذي خاصية الظلمة والعزلة. ولما كان عيسى عليه السلام كلمة الله كما نص على ذلك القرآن الكريم: ﴿  إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ آل عمران: 45، فإن كلمته سبحانه قد سمعت بمجرد الولادة: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ﴾ مريم: (24).
حاولنا بهذه المعالجة أن نصف جملة من الخصائص المتشابهة التي تصف ظروف ما وصل إلى الرسل من وحي إلهي في كل من قصة يوسف وموسى وعيسى، ولعل الأمر يتأكد إذا استحضرنا قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء وما ارتبط به من أحداث سجلتها السيرة النبوية؛ فغار حراء بعيد عن المجتمع، ولزومه لمدة طويلة ضرب من العزلة، فهو شبيه بالرحم وبالسجن الذي انطلقت منه شرارة الهداية ليعم نور الله سبحانه وتعالى على البشرية جمعاء والله تعالى أعلم.

عبد الحي العباس
كلية اللغة العربية
مراكش


ملحوظة:
نظم المجلس العلمي المحلي بزاكورة ندوة علمية تحت شعار: (أفلا يتدبرون القرآن) يومي 08 و09 محرم الحرام سنة 1436. وقد قبل المجلس العلمي مشكورا هذا المقال لبرمجته في إحدى الجلسات العلمية.


الهوامش:




[1] نظرا إلى قوة المباشرة بين الطلب وجوابه في الآية الكريمة : ﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ يوسف: 31؛ فقد حذف الجواب إذ التقدير فخرج.  ولعلها الحال نفسها في الآيات الآتية من السورة نفسها:﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ يوسف: 55، 65. أما الآيات الآتيات ﴿ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ  فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ  قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ  ﴾ يوسف:59، 60، 61. فقد ذكر الجواب مباشرة، بدليل فعل المضارع «سنراود»

[2] تجمع جل الدراسات الحديثة على أن للسرد قواعد عامة من نحو الوصف والحذف والمجمل، وغيرها. يكفي الاطلاع على الفصل الأخير من كتاب" نظرية السرد(من وجهة النظر إلى التبئير)" لـ "جيرار جنيت وآخرين" ترجمه: ناجي مصطفى، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي، الدار البيضاء، 1989، صص: 97 ـ 129.

[3]  جيرار جنيت، خطاب الحكاية"بحث في المنهج"، ترجمه: محمد معتصم وعمر حلي وعبد الجليل الأزدي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البضاء، 1996، ص: 102، وص: 108.

[4]  في الآية الكريمة الآتية انسجام قوي بين محتوى الخطاب الفاصل وبين محتوى الطلب: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ البقرة :260.

[5]  تستثنى من هذه  العلاقة المطردة بين الطالب والمطلوب منه علاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى، إذ يبنى الطلب على دلالة الدعاء والتضرع.
[6] تلمح هذه الإشارة، فيما يبدو، إلى أن ما سيقوم بع عيسى عليه السلام لاحقا من معجزات هي من فضل من الله سبحانه: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾  آل عمران: 49

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن الراوي في قصة موسى عليه السلام بين القرآن الكريم والتوراة

فقه اللغة المعاصر

عن "اللغة العلمية" في البحث العلمي