عن النحت في العربية المعاصرة
(نشر هذا المقال بمجلة (اللسان العربي) في عدد:52، ديسمبر 2001)
يجد الباحث في كتب اللغة العربية الكلاسيكية بغير عناء ظاهرة النحت ووظيفته، وهي وظيفة تقوم على مبدإ الاختصار والاختزال. فالنحت هو «أن تؤخذ كلمتان وتنحت منهما كلمة تكون آخذة منهما جميعا بحظ. والأصل في ذلك ما ذكره الخليل من قولهم حيعل الرجل، إذا قال حيَّ على.»(1) ما يفهم من تعريف ابن فارس (ت: 395) هو إنشاء كلمة جديدة، بعض حروفها موجودة من قبلُ في كلمتين أو أكثر. وقد أدى هذا الفهم بالكثير من العلماء إلى اعتبار النحت نوعا من الاشتقاق ميزوه من الصغير والكبير بمصطلح الاشتقاق الكبّار.
ومهما يكن من أمر التسمية فإن وظيفة النحت تقتضي منا أن نتساءل عن دواعي الاختصار؟ وعمّن يقوم به؟ كما تدعونا إلى البحث عن تفسير ملائم لأسباب اطراد هذه الظاهرة في العربية الكلاسيكية وشذوذها في العربية المعاصرة.قبل الإجابة عن هذه الأسئلة يستحسن أن نستحضر النماذج اللغوية العربية التي اختصرها النحت إلى كلمة. وقد اقتضى ذلك أن نصنف هذه النماذج إلى مجوعات محددة:
المجموعة الأولى:
بسم الله الرحمن الرحيم: البسملة.
الحمد لله: الحمدلة.لا إله إلا الله: الهيللة.
لا حول ولا قوة إلا بالله: الحوقلة.
سبحان الله: السبحلة.
حسبي الله: الحسبلة.
ما شاء الله: المشألة.
سلام عليكم: السمعلة.
أطال الله بقاءك: الطلبقة.
أدام الله عزك: الدمعزة.
جعلت فداك: الجعفدة.
الله أكبر: التكبير
المجموعة الثانية
يقال في النسبة مثلا هذا رجل من
عبد شمس: عبشمي
عبد الدار : عبدريّ
عبد القيس: عبقسيّ(2)
تكفينا هاتان المجموعتان لرسم صورة عامة عن النحت في العربية القديمة؛ إذ النماذج التمثيلية كثيرة في كتب اللغة وفقهها.
ما يلاحظ في المجموعة الأولى أمران اثنان: الأول هو أن الكلمة المنحوتة قد اتبعت تركيبا منتظما بين حروف الجملة. ويسمح هذا الانتظام باحتمال استنتاج زمرة من القواعد التي اتبعها النحت في هذه المجموعة. ولعل أبسطها أخذ بعض الحروف المتباينة من كلمات الجملة، فتكوين كلمة من الأحرف المجتباة، ثم ختمها بالتاء إن كانت موافقة للنظام الصرفي العربي، أو تحويلها إلى وزن آخر خال من التاء، نحو التكبير.
وإذا افترضنا أن هذا الانتظام يعكس نسبة معينة من الاطراد فإن مرده فيما يبدو راجع إلى أن بنية هذه الجمل هي بنية ثابتة، إلى درجة يجوز تصنيفها ضمن التعابير المسكوكة les expressions figées . ومن ثم نتساءل: أيجوز أن يكون النحت مطردا في التعابير المسكوكة ما دام الكثير من العلماء يرونه سماعيا لا يخضع إلى قواعد مضبوطة؟(3)
أما الأمر الثاني فهو حضور الحقل الدلالي الديني وتغطيته لكل النماذج التمثيلية في هذه المجموعة؛ الشيء الذي يمكننا من أن نخصصها بمصطلح التعابير الدينية المسكوكة، تمييزا لها من التعابير المسكوكة المعروفة في اللغة العربية.
على هذا الأساس إذا عمّمنا هذه النتيجة وقلنا إن النحت يطرد في التعابير الدينية المسكوكة، فإنّ هذا التعميم يكون مبتورا إن لم نستخرج كلمة منحوتة من الجملة الدعائية التالية: صلى الله عليه وسلـم (4). لا ريب أن اللغة العربية لم تستخرج من هذه الجملة كلمة منحوتة، على الرغم من مواصفات التعابير الدينية المسكوكة الموجودة فيها. وقد يجد غياب النحت في الجملة الدعائية تفسيره لاحقا.
أما النماذج التمثيلية في المجموعة الثانية فمن الصعب جدا اعتبارها من التعابير المسكوكة؛ وهذه حال تثبت قيام النحت على مبدأ السماع دون القياس. وقد عالج الباحثون هذا الموضوع بما فيه الكفاية في أبحاث متعددة. يكفي أن نحيل، على سبيل التمثيل لا الحصر، على مقال محمد السيد علي بلاسي(5).
إذا كانت وظيفة النحت هي الاختصار فمن ينتجه؟ وما هي دوافع إنتاجه؟ وما هي طبيعة هذه الدوافع؟ تنصب هذه الأسئلة على الأبعاد التداولية للنحت، ولهذا تنطلق الإجابة عنها من متن المجموعتين التمثيليتين المذكورتين آنفا.
تقتضي المجموعة الأولى شخصين اثنين، أولهما المتلفظ بإحدى الجمل، أو ببعضها، أو بكلّها ـ ولنفترض أنه إمام يخطب يوم الجمعة ـ وثانيهما راوٍ يحكي لغيره أقوال الإمام ومحتوى خطبته. وبذلك يصبح خطاب الراوي متضمنا خطاب الإمام بقوة قانون سرد الخبر ونقله بمحتواه ودلالته. انطلاقا من هذه الوضعية، يكون الاختصار شبه قانون عام يطبع الخطابات السردية طالما أنه يقفز على الكثير من الأقوال والأوصاف التي يرى الراوي عدم الفائدة من ذكرها، ويكون الاختصار أيضا خير وسيلة تخفي ما قد يحدث للراوي من نسيان بعض الأشياء ومن عدم تذكره لكلّ ما قاله الإمام بصفة حرفية؛ ونسيان الجزئيات والتفاصيل أمر طبيعي في الإنسان. فالتسجيل الآلي هو الذي يقوم بنقل كل ما قيل بشكل مطلق.
يتضح إذن، أن الراوي ينهج أسلوب الاختصار والاختزال من خلال استثمار الكلمات المنحوتة وتوظيفها وفق طريقة مفترضة كالآتي:« بعد البسملة والحمدلة والهيللة عالج الإمام موضوع كذا في الإسلام…» فـرواية الخبر في الكلام هي التي تحتاج إلى الاختصار، وليس إنتاج الخبر وإنجازه في الكلام. وللاستدلال على هذا المبدإ يكفي الاستشهاد بهذا البيت الشعري، يقول عمر بن أبي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتُها فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل (6)
من الواضح أن النحت أسعف الشاعر في اختصار حدث لقائه بليلى، ثمّ نقله إلى المتلقي في خطاب ذي قيود معروفة.
ولا تنفصل دواعي النحت عن الرواية ذاتها؛ إذ يرتبط بعضها بتجاوز التفاصيل والجزئيات، وبعضها يتعلق بالنسيان العفوي، وبعضها يرتبط بالراوي ذاته من حيث قدرته اللغوية على حسن التعبير وسلامته، طالما أنه ينتج خطابا مبنيّا على خطاب سابق. وهذه قضايا تخص سياق الرواية ومقامها وظروفها ولا تخص تقنياتها. ومعنى ذلك أن النحت مرتبط بمستوى تداولي وليس بمستوى شكلي خاص بكل ما هو صرفي ـ اشتقاقي.
انطلاقا من هذه الرؤية، هل يعد ذكر الجملة الدعائية (صلى الله عليه وسلم) جزءا من رواية الخطاب أم جزءا من إنجاز الخطاب؟ كيف يختصرها الراوي وينحت منها كلمة واحدة؟
يبدو أن علماء العربية لم يجرؤوا على نحت كلمة من صلى الله عليه وسلم لسبب لغوي ولآخر أخلاقي. أمّا الأول فإن الاختصار على لسان الراوي يأخذ الصورة المفترضة التالية:«بعد الصلاة والسلام على رسول الله قال الإمام… » وفي هذه الحال يسقط الاختصار وينعدم في هذا النمط من الإنجاز اللغوي، ومن ثمّ لا مجال ليتحقق النحت ما دامت وظيفته منعدمة. بيد أن التحرير والكتابة باللغة العربية تختصر الدعاء المذكور إما إلى هذه الصورة (ص)، فتكون الكتابة كما يلي:
قال رسول الله (ص).
وهذا الاختيار قلما يستعمله الباحثون والكتاب والعلماء، وإما في صورة أكثر اطرادا، فتصبح الكتابة كما يلي: : قال رسول الله r:«...» وهذه حال تبعد النحت عن وظيفته ليصبح شكلا من أشكال الاختزال في مستوى الكتابة.
أما السبب الثاني فيكمن في أن أخلاق المسلم تحتم عليه أن يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم راويا كان أم محدثا أم مستمعا. ومما يؤكد هذا الحضور الأخلاقي الحديث النبوي الشريف:« الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» (رواه أحمد، كتاب مسند أهل البيت، رقم الحديث:1645). ولهذا يبدو أن النحت بوظيفته لم ينجح في تأسيس مختصر لهذا الدعاء في اللغة العربية.
فيما يخص المجموعة التمثيلية الثانية فإنها تقتضي شخصا واحدا، راويا كان أم متكلما عربيا، إذ يكفي أن يقول قائل: «أنا عبشمي النسب» ويقول آخر بوصفه راويا:«هذا الرجل طبرخزي(7)المولد.» وفي هذه الحال يرتبط النحت بمستوى لغوي في شقه الاشتقاقي والصرفي، ولا يتعلق بمستوى تداولي.
ما نستنتجه من الحالين معا هو أن نشأة النحت في اللغة العربية كانت استجابة لضرورة تداولية خطابية فرضتها عوامل اجتماعية وفكرية، كما كانت استجابة لضرورة لغوية فرضها الاهتمام اللغوي بكل ما هو حيوي في الحياة الاجتماعية.
مكتب المباحث الاتحادي: م.م.ا
صندوق النقد الدولي: ص.ن.د
حلف شمال الأطلسي: ح.ش.أ
منظمة التربية والعلم والثقافة: م.ت.ع.ث
صندوق رعاية الطفولة التابع لهيئة الأمم المتحدة: ص.ر.ط
منظمة الصحة العالمية: م.ص.ع
ب باء ← /baa?/ ----- cvvc
ث ثاء ← /θaa?/ ----- cvvc
ح حاء ← /ħaa?/ ----- cvvc
ق قاف ← /qaaf/ ----- cvvc
س سين ← /siin/ ----- cvvc
ل لام ← /laam/ ----- cvvc
ع عين ← /ęajn/ ----- cvcc
و واو ← /waaw/ ------ cvvc
الهوامش
(1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر، 1979، 1/328 ـ 329.
(2) السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، شرحه وضبطه: محمد أحمد جاد المولى وآخرون، دار الفكر، ب ت، 1/482 ـ 484
(3) نفسه، ص: 484.
(4) سنناقش هذه المسألة لاحقا.
(5) انظر بشكل خاص الفقرة المعنونة النحت (بين السماع والقياس)، محمد السيد علي بلاسي، النحت في اللغة العربية، «اللسان العربي»، ع:47، يونيو، 1999، ص:279.
(6) الديوان، شرح محيي الدين عبد الحميد، ط1، دون تاريخ، ص: 498، المادة الشعرية رقم: 413، والبيت مفرد، وقد أشار الشارح إلى أنه ورد في نسخة أخرى بلفظ« فيا حبذا ذاك الحديث المبسمل»
(7) طبرخزي منحوتة من طبرستان وخوارزم.
(8) المقصود من العربية المعاصرة اللغة التي تستعملها الصحف والمجلات العربية.
(9) إميل بديع يعقوب، فقه اللغة العربية وخصائصها، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، بيروت، 1982، ص:212.
(10) نفسه، ص:209.
________________________________________
انطلاقا من هذه النتيجة، ما هو موقع النحت في اللغة العربية المعاصرة؟(8) تأتي مشروعية هذا السؤال حينما نستحضر في أذهاننا رغبة العربية المعاصرة للاستفادة من وظيفة النحت، ولاسيما إذا عرفنا أن التطور الحضاري السريع يقتضي استغلال مفاهيم كثيرة مثل: الاقتصاد في الخطاب، والاختصار في الكلام، والسرعة في تحقيق التواصل.
من المفترض أن التطور الذي شهدته البلاد العربية عبر قرون عديدة يقتضي تطورا مساوقا له في الإنتاج اللغوي في جل مستوياته. بيد أن النحت لم يشهد تطورا ـ فيما يبدو ـ يمكّنه من مواكبة القيود الاجتماعية والاقتصادية، تداولية كانت أم صرفية ـ اشتقاقية. ومن ثم يصف إميل بديع يعقوب موقع النحت في اللغة العربية المعاصرة قائلا:«وعندنا أن اللغات الأجنبية وبخاصة المنحدرة من اللغة اللاتينية، أكثر قابلية للنحت من اللغة العربية، وأنه في كثير من الأحيان، يستحيل في العربية نحت كلمة من كلمتين. ولكن هذا لا يعني أن لغتنا غير قابلة للنحت، فإن أحدا لا يستطيع إنكار الكلمات المنحوتة فيها. والذين ذهبوا إلى أن العربية لا تقبل النحت، اعترفوا أنها وفقت في نحت بعض الكلمات نحو برمائي (بر+ ماء) ومدرحي أو مدرحية (مادة + روح).»(9)
واضح أن النص يميل إلى الاعتدال بين من يرى «أن النحت غريب عن نظام اللغة العربية الاشتقاقي، لذلك لا يصح أن يعدّ قسما من أقسام الاشتقاق»(10) وبين من يرى عكس ذلك. بيد أن ما يؤخذ على النص هو رؤيته الضيقة لمفهوم النحت، إذ لم يستطع أن يتجاوزها ليُدخل في النحت ما ذهب إليه تمام حسان قائلا: «ومما يرتبط بالاشتقاق أيضا ظاهرة النحت، وهي تمثل نوعا من أنواع الاختـزال المبني على اختيار أشهر حروف العبارة لصياغة كلمة منها abréviation.»(11)
يبدو أن خير منهج علمي ينبغي اتباعه في هذا النمط من البحث هو اختيار متن معين ثم تحليله ودراسته. وانطلاقا من نتائج ذلك يأتي الحكم على موقع النحت في اللغات العالمية المشهورة ومنها العربية. ليكن إذن، المتن مكونا من كلمات منحوتة، شهرتها مسجلة في الصحافة العالمية، ثمّ لنحاول أن ننحت من ترجمتها مفردات باللغة العربية، متبعين الطريقة التي تمّ بها نحت الكلمات الإنجليزية (12)
وكالة الاستخبارات الأمريكية | C.I.A | Central Intelligence Agency |
مكتب المباحث الاتحادي | F.B.I | Federal Bureau of Investigation |
صندوق النقد الدولي | I.M.F | International Monetary Fund |
حلف شمال الأطلسي | NATO | North Atlantic Treaty Organization |
منظمة التربية والعلم والثقافة | UNESCO | United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization |
منظمة الصحة العالمية | W.H.O | World Health Organization |
من المعلوم أن استعمال المفردات المنحوتة ـ والتي خصصناها بخط مائل ـ لا تستعمل إلا في سياق لغوي Contexte linguistique معين يكون قرينة على فهم المعنى المراد منها، ويكون في الآن نفسه محفزا ليستحضر المتلقي الأصل اللغوي المنحوت منه. والمقصود من هذه الإشارة أن الكثير من الكلمات المنحوتة تشترك في صورة واحدة، فمثلا يراد من N.B.A أمران اثنان:
الأول: الجمعية الوطنية لكرة السلة National Basketball Association
الثاني: الجمعية الوطنية للملاكمة National Boxing Association.
إن أبسط ملاحظة في المتن الإنجليزي تبين أن الكلمة المنحوتة تكونت من أول حرف لكل كلمة في الأصل اللغوي، ثمّ شحِنت بمدلول مجموع الأصل ذاته. ومن هذه الكلمات المنحوتة ما يفصل بين حروفها بنقطة، ومنها ما لا يفصل. ونظرا لشيوع الكلمات المنحوتة بمدلولها واشتهاره بواسطة الاستعمال المطرد، ولاسيما في الصحافة الغربية، فقد اشتهر المنحوت وتنوسي الأصل. وهذا ما يثبت أهمية الوظيفة الاختزالية من النحت.
إذا جربنا النحت بهذه الطريقة في الترجمة العربية، فمن المفترض أن يكون الأمر كما يلي:
وكالة الاستخبارات الأمريكية: و.س.أ مكتب المباحث الاتحادي: م.م.ا
صندوق النقد الدولي: ص.ن.د
حلف شمال الأطلسي: ح.ش.أ
منظمة التربية والعلم والثقافة: م.ت.ع.ث
صندوق رعاية الطفولة التابع لهيئة الأمم المتحدة: ص.ر.ط
منظمة الصحة العالمية: م.ص.ع
من الصعب جدا أن نشتق من هذه الأحرف كلمات منحوتات يقبلها النظام الصرفي في اللغة العربية. ولهذا ترغب الصحافة العربية عن استعمال هذه الصور المفترضة من النحت، وتتجه إلى استعمال الأصل اللغوي كاملا. وفي أسوإ الأحوال تعْدل الصحافة العربية عن الأصل اللغوي العربي لتستعمل المنحوت الإنجليزي من غير مسوغ، نحو ما ورد بشكل مطرد في مجلة التنمية والبيئة حيث نجد: يمكن استخدام GIS (Geographic Information System) في عملية وضع السياسات البيئية(13). ولهذا يجد الحكم السابق نسبة معينة من الصواب، حينما ذهب إلى أن اللغة العربية لا تقبل النحت.
ومع ذلك يحتاج الأمر إلى تفسير ملائم، ولاسيما أن كلمة حماس منحوتة من حركة المقاومة الإسلامية، وهي من الاستعمالات اللغوية في الصحافة العربية، كما أن كلمة باسم منحوتة من البنك الآلي للمصطلحات السعودي(14)، وهي من الاستعمالات اللغوية في البحث العلمي، فضلا عن الأمثلة السابقة التي ذكرها إميل بديع يعقوب. ما هي يا ترى الأسباب التي تعوق شيوع النحت وتداوله للاستفادة من وظيفته؟ أهي أسباب اجتماعية اقتصادية أم هي أسباب تعود إلى بنية اللغة العربية؟
قد يقال إن الأسباب ـ وإن اختلفت ـ تعود إلى سبب رئيس، وهو الذي يرتبط باقتصاديات الدول العربية التابعة لاقتصاديات الدول الكبرى؛ إذ من المعروف أن اللغة الإنجليزية لم تصل إلى ما وصلت إليه من انتشار واسع بين أوساط عدد كبير من المجتمعات البشرية إلا بفضل تطور الاقتصاد الأمريكي. ولشيوع هذه اللغة ولاستعمالها المطرد كان لابد أن تعمل على تطوير أدواتها وآلياتها وقواعدها بطريقة علمية تساعد على ترسيخ هذا الشيوع والانتشار.
نحن لا نخالف هذا الرأي، بيد أن السبب الرئيس يعود، فيما يبدو لنا، إلى نظام الأصوات العربية، وبشكل خاص إلى التلفظ بالأبجدية العربية.
إذا تأملنا بنية المنحوتات في اللغات الغربية تبين لنا أن التلفظ بها ينبني على مبدإ التلفظ بالحروف الأبجدية. والمراد بذلك أن التلفظ بالصوامت Consonnes يتحقق بالصوائت voyelles في الوقت نفسه. وبعض الأمثلة التالية تؤكد ذلك(15):
b ← /bi:/ تتكون من cv
c /si:/ ------- cv
d /di:/ ------- cv
f /ef/ ------- vc
s /es/ ------- vc
x /eks/ ------- vcc
h /eıt∫/ ------- vcc
r /er/ ------- vc
q /kju:/ ------- ccv
k /keı/ ------- cv
لهذا حينما يجتبي النحت حرفا من كل كلمة فإن التوزيع الداخلي المتكافئ للصوائت في اللغة الغربية يساعد على التأليف بينها، فإذا أخذنا مثلا: هذه المتوالية من الحروف NATO I.M.F F.B.I C.I.A فإن التلفظ بها من الناحية الصوتية يكون ميسرا وخاليا من كلّ تعقيد. وتتأصل مثل هذه المتواليات في نظامها الصوتي بكثرة التداول والاستعمال فتصبح في النهاية وكأنها كلمات استقلت بمعناها، في حين لا يعدو أن يكون الأمر نحتا من نوع خاص. والظاهر أن شدة التآلف والتلاحم بين حروف الكلمات أسقطت الكثيرُ من المعاجم نقط الفصل بين الكثير من المنحوتات كما هي الحال فيNATO , UNICEF وغيرها من الكلمات؛ الشيء الذي يثبت أن التوزيع المتوازن بين الصوامت والصوائت له دور فعال في إنتاج النحت ونجاح شيوعه أو عدمه.
ويبدو أن الأمر بهذه الصورة لا يستقيم في اللغة العربية، لأن التلفظ بالأبجدية العربية لا يتحقق بعدد قليل من الصوائت والصوامت كما هي الحال في اللغة الفرنسية أو الإنجليزية، بل يقتضي تحقيقُ ذلك التلفظ بكل المكونات الصوتية لعناصر الأبجدية. لنفحص ذلك ببعض الأمثلة:
ا ألف ← /?alif/ تتكون من cvcvcب باء ← /baa?/ ----- cvvc
ث ثاء ← /θaa?/ ----- cvvc
ح حاء ← /ħaa?/ ----- cvvc
ق قاف ← /qaaf/ ----- cvvc
س سين ← /siin/ ----- cvvc
ل لام ← /laam/ ----- cvvc
ع عين ← /ęajn/ ----- cvcc
و واو ← /waaw/ ------ cvvc
ما يلاحظ إذن، هو أن البنية الصوتية للنطق بالحرف الواحد في الأبجدية العربية يتكون من أربعة أصوات على الأقل موزعة بين صوامت وصوائت، ويرتفع العدد إلى أكثر من ذلك إذا أدخلنا الحركات الإعرابية. ومن ثم يصعب أن يتأسس نحت كلمة من مجموع كلمات عدة في اللغة العربية بناء على هذه المعطيات الصوتية. وإذا أردنا أن نقرأ هذه المتوالية الصوتية قراءة صوتية: ص.ن.د بوصفها كلمة منحوتة من متوالية من الكلمات هي: صندوق النقد الدولي، فإننا نكون مجبرين على اختيار إحدى القراءتين: الأولى هي/şaad.nuun.daal/، والثانية هي:/şunada/.
ومن هنا تكون القراءة الأولى خالية من دلالة مادامت صورتها النهائية هي صورة من يقرأ حروفا أبجدية عربية، وتكون الثانية ـ وهي المعبرة عن صورة النحت ـ غير مقبولة في نظام اللغة العربية صوتيا وصرفيا.
وإذا رجعنا إلى الكلمتين المنحوتتين حماس وباسم فإننا نلاحظ أن نظام اللغة العربية يقبلهما باعتبارهما كلمتين أصليتين معروفتين في المعجم العربي، ومن ناحية أخرى نلاحظ آثار النحت بادية عليهما معا؛ فإلى جانب أن كلمة حماس اتبعت نهج النحت في اللغات الغربية فإن الميم في الأصل مضمومة (المُقاومة) في حين هي مفتوحة في المنحوتة، والألف مهموزة ومكسورة في الأصل (الإِسلامية) في حين هي مهموسة وساكنة في النحت. وقد لحق التغيير عينه إخراج كلمة باسم. وهذا أمر يثبت أن الانتقال من أصل إلى فرع يصاحبه اختلاف طفيف لا يؤثر في العلاقة الوطيدة بين الأصل وفرعه.
واضح إذن، أن الأسباب في عدم شيوع النحت باللغة العربية المعاصرة تعود إلى البنية الصوتية العربية، وهي بنية ـ كما رأينا ـ لا تساعد على الاختزال والاختصار، الأمر الذي تكون فيه العلل موضوعية وليست ذاتية.
وعلى الرغم من موضوعية هذه العلل فمن المعروف أن الفرد العربي ـ مثقفا كان أم أميا، عالما كان أم جاهلا ـ يختار لأبنائه، في لحظة الولادة، الأسماء الجميلة والخفيفة والمعبرة؛ فلماذا ينعدم هذا الحرص لدى جماعة من الناس؟ وللتوضيح بشكل آخر، أقول: إذا كانت الشركات التجارية والصناعية الكبرى هي التي تساهم في نمو الاقتصاد الوطني، فإن المشرع ينص على أن تأسيس شركة كيفما كان نوعها وغرضها ينبغي أن يكون لها اسم يحمل عنوانها لتعرف به وتتميز به من غيرها. ولما كانت أسماء الشركات غالبا ما تنحت من أسماء الشركاء في شركات الأشخاص، ومن أسماء الغرض التجاري في شركات الأموال، فلماذا لا يتم التفكير بشكل علمي في الاسم المنحوت ليكون موافقا لقيود اللغة العربية خفة وجمالا وتعبيرا؟ فالأمر ليس بالمستحيل ولن يكون مستحيلا، مادام تحقيقه قائما على استشارة الباحثين والعلماء في اللغة.
قد يتحقق منهج النهوض بظاهرة النحت في الصحافة العربية إذا كانت اللغة السائدة في المعاملات التجارية والاقتصادية داخل دواليب الإدارة هي العربية؛ أما والعكس هو السائد فإن حظوظ الاستفادة من وظيفة النحت تبقى ضعيفة جدا.
(1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر، 1979، 1/328 ـ 329.
(2) السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، شرحه وضبطه: محمد أحمد جاد المولى وآخرون، دار الفكر، ب ت، 1/482 ـ 484
(3) نفسه، ص: 484.
(4) سنناقش هذه المسألة لاحقا.
(5) انظر بشكل خاص الفقرة المعنونة النحت (بين السماع والقياس)، محمد السيد علي بلاسي، النحت في اللغة العربية، «اللسان العربي»، ع:47، يونيو، 1999، ص:279.
(6) الديوان، شرح محيي الدين عبد الحميد، ط1، دون تاريخ، ص: 498، المادة الشعرية رقم: 413، والبيت مفرد، وقد أشار الشارح إلى أنه ورد في نسخة أخرى بلفظ« فيا حبذا ذاك الحديث المبسمل»
(7) طبرخزي منحوتة من طبرستان وخوارزم.
(8) المقصود من العربية المعاصرة اللغة التي تستعملها الصحف والمجلات العربية.
(9) إميل بديع يعقوب، فقه اللغة العربية وخصائصها، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، بيروت، 1982، ص:212.
(10) نفسه، ص:209.
________________________________________
تعليقات
إرسال تعليق